على طريق المهرجان الثالث للقمندان
[c1]عياش علي محمد [/c]تذوق شعراء لحج الفاكهة الطيبة من بستان الحسيني ، فتقطرت كلماتهم عذوبة ورقة ، وغدت رياحين الحسيني الهاماً للشعر والغناء اللحجي حتى اني احسب ما من الحاث جميلة إلا ويقف خلفها بستان الحسيني ، ويسعد المرء بسمه كلمة الحسيني ، وهو كذلك يسر الناظرين اليه ، ويبث السكون والطمأنينة في قلوب كل من احبوه وعشقوه ، فكيف نشأ بستان الحسيني ؟ وكيف وصل إلى ذلك المستوى من الروعة ؟بستان الحسيني الذي يبعد عن الحوطة العاصمة اللحجية ستة كيلومترات بأشجاره اليانعة التي تقف شامخة على تربية الخصبة وازهاره الجميلة الاخاذة ، وفواكهه اللذيذة والممتعة ، يسافر اليه المسافرون ويقطعون المسافات البعيدة كي يستمتعوا باجازة هانئة وهادئة في ربوعه الخضراء والمشمسة ، خاصة خلال اجازات نهاية الاسبوع وغالباً كانت يومي السبت والاحد والمناسبات الوطنية . بستان الحسيني من بساتين لحج القديمة جداً ، ويقع في قلب الدلتا ، دلتا تبن الزراعي يحتضنه الوادي الصغير في جهته اليسرى والوادي الاعظم من جهته اليمنى ، فهو سليل ارض نباتية وفي موقع عريق اكدت الاستكشافات اثرية عراقتها وتاريخها في القدم .ولد بستان الحسيني لترعاه جداول مائية منتظمة في جرياتها ، منبعها عيون نهرية لاتنقطع ، تفديها مياه الوادي الاعظم والوادي الصغير ، فساعدت على ظهور ضمائل ، واشجار برية جميلة وكأنها ارست التطور اللاحق لبستان الحسيني ، ليأسر الباب العشاق .يقع بستان الحسيني في منطقة تعد من افضل الاراضي الزراعية فهي تحتضن في باطنها احتياطياً ضخماً من المياه العذبة ، وظهرت في هذه المنطقة حضارة زراعية قديمة تمثلت في منطقة ( الرعارع ) وهي العاصمة اللحجية قبيل انتقالها إلى الحوطة العاصمة الحالية لها ، وبجانبه (وادي طير ) وهي ارض زراعية فسيحة وممتدة ومزهرة ، وقد تمت بذلك الاسم نسبه لكثرة الطيور فيها التي ظلت تقتات من محاصيل ارض وادي طير ، الذي تحول مؤخراً إلى ارض وادي خير ويقع وادي طير على الضفة القابلة لبستان الحسيني . اول من اهتم بالرقعة الزراعية الواقعة في بستان الحسيني ، السلطان علي محسن فضل العبدلي ، جد الامير احمد فضل بن علي محسن العبدلي الملقب ( القمندان ) حيث شق عدداً من الاعبار المائية المتفرعة من الواديين الاعظم والصغيرة واستصلح عدداً من الرقع الزراعية واهتم بالانتاج والمنتجات . في عام 1849م احتاج المعتمد البريطاني في عدن لان يعتمد في المعاهدة البريطانية - العبدلية ( نصاً) يتعهد فيها العبادل بزراعة البقوليات والخضروات في لحج ، بعد ان كانت بريطانيا للعبادل سنوياً مايكفي من البذور لزراعتها . وفي عهد السلطان فضل بن علي محسن العبدلي والد الامير احمد فضل القنمدان استعارت حكومة عدن ارضاً في لحج ، اقامت فيها بستاناً جرى تسميته ببستان ( السركال ) وجلبت لهذه البستان عدداً في الاشجار والفواكه من الهند ، ثم قام بعد ذلك احد تجار عدن الكبار وهو المرزا حسن علي رجب ، باستحداث بستان آخر في لحج ومن هذين البستانين نقل اهالي لحج الاشجار والفواكه إلى بستانين اخرين احد هما بستان الحسيني .بعد الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918م وبالذات في عام 1918م خرج الاتراك من لحج بعد احتلالها عام 1915م مدحورين بهزيمتهم من قوات الحلفاء التي ترعمتها بريطانيا ، ومدحورين داخلياً بميدان منطقة العماد في لحج .وبخروج الاتراك استعادت السلطنة اللحجية مكانتها في الحكم من جديد وفي عام 1919م بدأ الامير احمد فضل القمندان في تعمير بستان الحسيني ، ويهتم به ونشط من تلقاء ذاته في اعادة البستان بشكل اكثر جمالاً وتقدماً في الشكل والمضمون . هناك رواية تحكى عن قصة اسناد السلطان عبدالكريم فضل العبدلي مهمة تحويل بستان الحسيني إلى جنة في الارض العبدلية ، لاخيه الشقيق احمد فضل القمندان . تقول الرواية ان السلطان عبدالكريم فضل ، عندما رأى شقيقه الامير احمد فضل القمندان ، يتدخل في شؤون الحكم والسلطنة ، لجأ إلى الحيلة السياسية ، فدبر شقيقه هذا المشروع وقال له : أريدك أن تهتم بهذه القطعة من الارض وتحولها إلى جنة يكتب لها الخلود .ووعده بأن يوفر له كل الامكانيات المطلوبة ، وفعلاً وفر له كل شيء . عندما اقترح السلطان عبدالكريم فضل على اخيه الامير احمد فضل القمندان بأن يقيم مايشبه الجنة على الارض العبدلية ( بستان الحسيني ) ووعده بتقديم كل الامكانيات المادية والعملية لتحقيق هذا المشروع الكبير، كان السلطان عبدالكريم فضل يعلم بأفكار اخيه ( القمنداني ) الذي كانت تستهويه ( ارم ذات العماد ) وقصورها المبنية من الذهب والمرجان والياقوت واحتواؤها على كنوز الدنيا ، فدعاة لتحقيق حلمه على بستان الحسيني . على اثر ذلك ، قام القمندان بأول خطوة لتحقيق مشروعه الكبير ، فجلب اشجار المانجو والزيتون والعنب والتمبل والتين وغيرها من غرسات الفاكهة من مختلف البلدات مثل ايطاليا ، الهند ، لبنان ، مصر . كما جلب خبراء زراعيين تولوا عملية تقليم الاشجار كالزيتون والمانجو ، واستطاع الخبراء تحويل الزيتون من زيتون بلدي إلى زيتون مقلم ، وكانت الحبة الزيتون القلم بحجم ثلاث حبات زيتون بلدي عادي . واستطاع الخبراء تقليم كل من العنب والمشمش والمانجو وحولوا تلك الفاكهة من حالتها الأولى ، الى حالة جديدة في الشكل والنوع كتلك التي حدثت لفاكهة المانجو حين حولوها إلى مانجو اطلق عليه ( بيض العجل ) ، وهو مانجو بيضاوي الشكل وكبير الحجم . وقد بلغ عدد البساتين في لحج إلى عام 1976م قرابة 18 بستاناً هي (الحسيني ، الحبيل ، العرائس ، السلطان منصر ، الرعارع ، يوسف فضل ، المكاوي ، الشيخ صويلح ، لشبان صالح ، العامري ، الامير ، السركال ، بستان أم القفع ، الجبيلي، الجفري ، وبستان آل كرو ) .لقد اطلق الاهالي على لحج تسميه (أم المسكين ) لوجود هذه البساتين فيها التي كان عادة مايلجأ اليها الفقراء النازحون من المنطقة الشمالية من اليمن للحصول على اشباع مؤقت يتحصلون بعدها على اعمال يقتاتون منها في لحج . وبعد ان قام الامير احمد فضل القمندان بتعمير بستان الحسيني ، بنى منزلاً جميلاً من الطوب ذا طابقين ، وحمام سباحة تغطية اشجار البن التي اضفت على الماء لوناً بريقاً اضافة إلى انشاء ميدان خصص للعبة التنس الأرضي . وقد بلغت مساحة بستان الحسيني حوالي 75 فداناً احتوى على اشجار البرتقال النارنج . الاترنج ، الليمون بأنواعه ، الرمان ، الموز ، العنب ، الجوافة ، العاط ، الخرنوب ، الشيكو ، البيذان ، جوز الهند ، المانجو بأنواعها ، الباباي ، التمبل اضافة إلى اعداد كبيرة من اشجار الرياحين مثل الفل والكاذي ، والنرجس والياســـمين ، والخوع والحنون وغيرها . شكلت الفواكه في بستان الحسيني والبساتين الاخرى احد اهم مصادر الدخل النقدي ، فقد تشبعت اسواق لحج وعدن من هذه الفواكه وتزايد عدد السكان الدين يستهلكونها يومياً ومثلت بذلك احد اهم المعالم الزراعية التي اعطت للحج نكهة عبقة في مستوى روعه فواكهها كما اعطت هذه البساتين لحج ميزة خاصة كأقليم ساحر وجذاب للباحثين عن المتعة لقضاء اوقات الفراغ ، والاستمتاع أيام العطل بين اشجار الفاكهة واطايب الزهور والرياحين . وقد زار بستان الحسيني عدد من الشخصيات العربية المرموقة امثال المؤرخ ( امين الريحاني ) صاحب كتاب ( ملوك العرب ) الذي قام بزيارة لحج عام 1952م واستمتع بمشاهدة بستان الحسيني ، وله مقولة خالدة عقب زيارته لعدن ولحج ( عجبت لهؤلاء - ويقصد هنا العبادل - ان لديهم غرفة للعبة البلياردو ، وفي الغرفة الثانية صحيح البخاري باجزاءه الكاملة) وهذا يدل انه وجد مكتبة واسعة فيها امهات الكتب والمراجع المهمة ، كما زار لحج ، وبستان الحسيني السيد محمد الغنيمي من مصر المشهور بأدبه وثقافته الذي كان الامير احمد فضل القمندان يحبه ويحترمه . وكان الغنيمي احد المدرسين الذين جلبهم السلطان عبدالكريم فضل العبدلي من الخارج لاعطاء اولاده واخوانه دروساً في اللغة والفقة وبقية العلوم وقدم ذكره القمندان في احدى قصائده المشهورة . " مسلم لنا عالغنيمي ... السيد المختار قبل أكفه مرار الوافي ... الصحبه البار كما زار لحج ومر على بستان الحسيني عبدالعزيز الثعالبي من تونس وهو احد ادبائها المشهورين - كما زار لحج ولشبانها الأستاذ صالح جلبيت وهو اديب من القطر العراقي والأستاذ / علي رضاء وهو تركي الاصل من ( أزمير ) تولي منصب ناظر الجمارك في سلطنة لحج بعد ذلك . وزارها ايضاً عدد من البعثات العربية والاجنبية منها بعثة مجلة (العربي ) الكويتية التي نزلت تتضيف على مسؤولي لحج وقفت يوماً سعيداً داخل بستان الحسيني .إن كثرة فواكة بستان الحسيني وجودتها ، وانواعها التعددية ، الى جانب اشجار الرياحين اثر تأثيراً كبيراً على حياة الناس ، الدين استمتعوا برؤية وتذوق هذه الفواكه اللذيذة ، ثم تحول التذوق إلى عبارات وصفية ثم تحولت العبارات الوصفية إلى نظم وأبيات شعرية ، تنتهي بروائع لحنية جميلة ، ترجمتها صبايا شابة اعطت لوناً جديداً ذا نكهة ليست بعيدة عن نكهات رياحين الحسيني ، كما تحولت الرياحين إلى مفاخر وطنية واجتماعية خصوصاً عند النساء اللاتي يتزين بها في كل مناسبة إلى جانب عقود الحلي الملتقة حول صفائر الصبايا المزينة بأكاليل الفل وزهرات الكاذي . ويعد هذا تقليداً قديماً عند المرأة في لحج خصوها في أماسي المناسبات والأفراح .