[c1]صبحي حديدي[/c]حين شاء الرئيس الامريكي جورج بوش الانحناء أمام الإلهام الربّاني الذي راوده وأراده (وعلي ذمّته: كلّفه) أن يجتثّ شرور الشرق الأوسط من جذورها، وأن يرسل سعادة الحرّية وقوت الديمقراطية إلي شعوب المنطقة البائسة الجائعة، فإنّ أوّل خطوة خطاها بوش علي درب تلك الحملة الصليبية الخيّرة كانت قراءة كتاب السياسي الإسرائيلي والمنشقّ السوفييتي السابق ناتان شارانسكي حجّة الديمقراطية: جبروت الحرّية في التغلّب علي الطغيان والإرهاب . ولعلّ بوش لم يجد في الأمر أية مفارقة أخلاقية، من نوع نصح المقهور باعتماد فلسفة القاهر، بل رأي العكس تماماً وعلي مبدأ: داوها بالتي كانت هي الداء!.واليوم حين ترطن وزيرة الخارجية الأمريكية عن شرق أوسط جديد ، وفي الآن ذاته لا تكتفي بصمّ آذان الإدارة عن البربرية الإسرائيلية في سائر لبنان، بل تشجّع علي المضيّ أبعد في الهمجية وأسرع في التدمير، هل يدهشنا أنّ مشروعها الجديد هذا ليس سوي طبعة متأخرة ـ لكي لا نقول: نسخة الكربون ـ من ذلك الشرق الأوسط الجديد الذي حلم به شمعون بيريس: رؤيوي السلام، وحامل ثلث نوبل السلام، وجزّار قانا، ومجرم حرب عملية أعناب الغضب ... هنا، في جنوب لبنان ذاته؟ الطريف، إلي هذا، أنّ المرء لا يكاد يأتي بجديد حين يستعيد الدائرة المغلقة التي تصنعها جدلية رسوخ القديم، وربما العتيق المتآكل المستهلَك، في كلّ تفكير أمريكي جديد حول شرق أوسط جديد!ومن جانب آخر، ما الفارق بين هذا الشرق الأوسط الجديد، المرتجي، وذاك الذي كان حجر الأساس في ما أسماه الرئيس الأمريكي الاسبق جورج بوش الأب النظام الدولي الجديد ، عشية عمليات درع الصحراء و عاصفة الصحراء ومؤتمر مدريد حول السلام العربي ـ الإسرائيلي؟ وفي صياغة أخري: هل طُوي ذلك النظام؟ وإذا صحّ أنه طوي، فهل لأنّ النظام استنفد أغراضه جمعاء، ام لأنه لم يستنفد منها قسط الحدّ الأدني، فكان محتماً أن يتآكل ويهتريء ويتفكك ذاتياً؟ وبالطبع، لا مناص من الصياغة الثالثة للسؤال ذاته: لماذا يتوجّب أن تنجح وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، بالتكافل والتضامن مع فريق إدارة بوش وجمهرة المحافظين الجدد مجتمعين، في تحقيق نظام شرق أوسطي جديد فشل في تحقيقه وزراء خارجية أمريكيون سابقون من أمثال جيمس بيكر، وارن كريستوفر، مادلين ألبرايت، وكولن باول؟ليست هذه الأسئلة ميكانيكية، أو حتي مدرسية ومن قبيل تحصيل الحاصل، إلا عند الذين يعتقدون أنّ السياسات الأمريكية الكبري، بصدد الشرق الأوسط تحديداً، يمكن أن تشهد طفرات حاسمة بمثابة منعطفات جوهرية، أو تبدّلات تكوينية بمثابة انقلابات رأساً علي عقب، أو ما أشبه وكان منها مدانياً. وعلي سبيل المثال، هؤلاء أوّل مَن ستصيبهم الصدمة ويأخذهم الروع إذا اكتشفوا أنّ اقتداء الرئيس بوش بديمقراطية شارانسكي، فضلاً عن جميع استلهاماته الربانية حول الخير والشرّ، تُطوي اليوم (حتي قبل أن تتجسد بأيّ معني واقعي فعلي عملي) بلسان الوزيرة رايس، وطيّ تبشيرها بشرق أوسط جديد. وهؤلاء، في المقام الثاني، أوّل خائبي الرجاء من ذلك اللغط الأمريكي الذي تعالي عشية غزو أفغانستان والإعداد لغزو العراق، حين أشاع البيت الأبيض أنه بصدد الانتقال من سياسة عقد صفقات التسوية مع أنظمة الاستبداد بذريعة ترجيح مبدأ الاستقرار حتي علي حساب الشعوب، إلي سياسة الانفتاح علي الشعوب البائسة ذاتها وتزويدها بمختلف الصادرات الديمقراطية، شاءت الشعوب استهلاك تلك الصادرات أم أبت! ولأنّ إيران الراهنة تبدو عاملاً أساسياً، إذا لم تكن العامل الرئيسي والأكبر، في هذا التخطيط الأمريكي لاستئناف شرق أوسط قديم، تحت مسمّي الجديد القديم بدوره، فإنّ ما يشهده لبنان اليوم من بربرية إسرائيلية ليس منقطع الصلة عن تلك الحرب الإيرانية ـ الأمريكية التي تتكدس عوامل اندلاعها يوماً بعد يوم. وبهذا المعني يفهم المرء سخط بعض الساسة الإسرائيليين لأنّ الدولة العبرية تبدو وكأنها، في قتال حزب الله ، إنما تقاتل بالنيابة عن الولايات المتحدة، أو تخوض بالتفويض حرب البيت الأبيض ضدّ آيات الله الإيرانيين... في العراق! ولكن لأنّ إيران ليست جمعية خيرية لإغاثة المستضعفين في الأرض، وتسليحها النوعيّ العالي لـ حزب الله ، كما يكتشف بعضهم اليوم ليس دون انبهار وعجب، أشبه بتسليحها لجيوشها الوطنية دون كبير نقصان، فإنّ آيات الله يسعون بدورهم إلي أن تكون معركة حزب الله ضدّ الاحتلال الإسرائيلي هي في الآن ذاته امتداد لمعاركهم ضدّ واشنطن. وتلك، كما هو معروف، ليست معركة تخصيب اليورانيوم وحدها، ولا معارك تصدير الديمقراطية إلي إيران فحسب، بل معارك قوس الإسلام العريض كما تسعي طهران إلي إعادة رسمه بما يكفل تحويله إلي ساحة استراتيجيات متصارعة.المثير، لأننا نظلّ في الحقل التاريخي والدلالي لحكاية الجديد/ القديم هذه، أنّ الشطر الإيراني من تفاصيل مفهوم رايس عن الشرق الأوسط الجديد قد يكون محض طبعة جديدة ـ وإنْ مبتذلة تماماً ـ من النظرية العتيقة الشهيرة حول الإحتواء المزدوج، الآن إذ يبدو عراق ما بعد صدّام حسين وكأنه جدير بطراز من الاحتواء لا يقلّ ردعاً عن عراق صدّام حسين، أو أشدّ ربما! و نتذكّر علي الفور أن حصاد مفهوم الإحتواء المزدوج ظلّ يعتمد علي أكثر من حرث وبذر واستنبات، ولكن الغلال ذاتها بقيت أسيرة المجهول، أو مستنقعات الوحول. لكنّ المفهوم كان جذاباً علي الدوام، ولهذا تراخي وتمطي واتسع حتي اختلط في نطاقه الحابل بالنابل، واضطرّ صاحبه الاصلي (مارتن إنديك) إلي مراجعته مراراً، وإلي تسليحه بأسنان قاطعة حوّلها بعض المحافظين الجدد إلي حملات صليبية مستدامة.وحين شاءت إدارة كلينتون فتح حوار مع طهران، صيف 1998 وبعد محاق مفهوم الردع المزدوج علي يد أولبرايت وأنتوني ليك مستشار الأمن القومي الأسبق، كان البيت الأبيض يسعي ضمناً إلي اختراق قوس الإسلام الافتراضي ذاك، من خلال نزوع الرئيس الإيراني الإصلاحي محمد خاتمي إلي الحوار. آنذاك أطلقت أولبرايت تلك العبارة الشهيرة: واضح أن عقدَين من انعدام الثقة لا يمكن محوهما في ليلة وضحاها. الهوّة بيننا ما تزال واسعة. ولكن الوقت قد حان لاختبار إمكانيات جسر الهوّة . و بيننا هذه كانت تعني الإدارة الأمريكية والحكومة الإيرانية، وتعني في المدلول اللغوي المباشر إمكانية قيام حوار بين فريقين يتحاوران بوصفهما اثنين علي وجه الدقة، وليس بوصف واحدهما دولة عظمي قيّمة علي قِيَم الإنسانية وشرطية حارسة لأمنها واستقرارها، وثانيهما دولة رجيمة مشاغبة ضد تلك القِيَم وراعية للإرهاب ومصدِّرة للثورة.ولقد توفرت إسهامات صامتة، أو مكتومة، من مستشار الأمن القومي آنذاك ساندي بيرغر، الذي امتدح ميل الرئيس الإيراني إلي الاعتدال والحوار، وذمّ ميل خصومه إلي التشدّد والخصام. كما توفرت إسهامات أخري صاخبة صائتة من بروس ريدل المسؤول آنذاك عن ملفّ إيران في مجلس الأمن القومي، الذي كان يصبّ دلواً ساخناً تارة حين يذكّر إيران بمواقفها من الجماعات الاسلامية والسلام العربي ـ الاسرائيلي وبرنامج بناء الأسلحة الصاروخية، ودلواً بارداً طوراً حين يقول: ولكن إيران هي إيران أيها السادة، بموقعها ودورها وماضيها وحاضرها، بتطوراتها الحبلي! ومع ذلك فإنّ الحوار لم يسفر عن تجسيد أيّ من معنيَيْ مفردة بيننا تلك، وانتهي إلي فشل ذريع لعلّ أبرز نتائجه كانت إضعاف خاتمي وفريقه، وتمهيد الأرض لمجيء أمثال أحمدي نجاد.كيف يمكن لشرق أوسط جديد، يولد بالضرورة من رحم القديم كما للمرء أن ينتظر منطقياً، أن يستوعب إيران الراهنة، وبأيّ الوسائل: الحرب، أم السلام؟ التسويات، حتي علي حساب عذابات الآخرين وفي باحاتهم، أم المجابهة؟ في قُمْ وطهران، أم في كربلاء وبنت جبيل؟ هذه، علي الأرجح، ليست أسئلة كوندوليزا رايس وحدها، بل هي كذلك أسئلة أصحاب القرار الأعلي في طهران (مرشد الثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي أولاً، ولكن ليس أحمدي نجاد ثانياً بالضرورة!)، وأسئلة بعض الحكام العرب الذين ستصيبهم مكرمة ـ أو شظية... حسب واقع الحال! ـ إذا ما انخرطوا في تصنيع هكذا شرق أوسط جديد.الثابت، ريثما تتضح الإجابات، أنّ كوندوليزا رايس تستعير من شمعون بيريس، في كتابه الشرق الأوسط الجديد ، 1993، الحلم باتحاد شرق ـ أوسطي علي غرار الإتحاد الأوروبي، ولكنها مثله لا تكترث بالحقائق الدامية علي الأرض قدر اكتراثها بالكيمياء التي تقلب الكابوس الأسود إلي حلم وردي. وإذا كان قد أبدي استعداده للتضحية بأغلي الصور علي قلوب الإسرائيليين الأوائل (صورة المقاتل الذي يحتضن رشاش الـ عوزي وسط حقل الشعير أو بيارة البرتقال)، فإنّ رايس تريد عكس الصورة تماماً: الغارات الإسرائيلية الهمجية علي بيروت وصيدا وصور والنبطية.ولأنّ بيريس يعتبر الاستيطان في الجولان أمراً أقلّ مغزي (أي أعلي شرعية) من الاستيطان في الضفة الغربية (يهودا والسامرة، في عبارته)، فإنّ نسخته الخاصة من الشرق الأوسط الجديد لا تمتّ بصلة إلي الحقّ السوري في الجولان المحتلّ، وليس لهذا أية عاقبة علي فلسفة تسعي إلي سحب نصف قرن من عمر دولة غاصبة (إسرائيل) علي عدد من القرون (هي عمر الشرق الأوسط، القديم والحديث) يُراد لها أن تكون الزمن الوحيد لهذه الواحة الافتراضية التي تمتد من البحر الأحمر إلي البحر الميت. لها كذلك، هذه الدولة الغاصبة ذاتها، أن تخفي خيوط الحرير طيّ كتل الفولاذ القاذفة للهب، وأن تطمس أكبر قدر متاح من الدماء والجثث والقري والأوطان والتواريخ.وقبل سنوات من حيازته لقب رؤيوي السلام ، كان شمعون بيريس قد تنبأ بأن الشرق الأوسط سيكون أمام احتمالين: سيناريو علي الطريقة الشكسبيرية حيث يفني الجميع في النهاية، وسيناريو علي الطريقة التشيخوفية حيث يظلّ الجميع علي قيد الحياة، ولكنهم أقرب إلي الأموات منهم إلي الأحياء. فإذا جاز أن وزيرة الخارجية الأمريكية استهدت به في اختلاق شرق أوسط جديد، فأيّ سيناريو تعيش المنطقة هذه الأيام؟ لا هذا ولا ذاك، لأنّ بيريس ليس في قلب الحكومة التي تشنّ الحرب البربرية علي لبنان فحسب، بل هو كما كان علي الدوام: مهندس الخراب وقيثارة الجنرالات وشاعر حروب اسرائيل، ونبيّ التكنولوجيا النووية.الجديد أنه لم يكن أقلّ شأناً من ناتان شارانسكي في تطوير عقول نساء، بعد رجال، البيت الأبيض![c1]عن/ ( القدس العربي )[/c]
|
اتجاهات
الشرق الأوسط الجديد : كيف يطرأ جديد على المفهوم القديم؟
أخبار متعلقة