أضواء
أن تطرح فكراً لمغايراً لما هو سائد إيماناً بالتجديد والنقد المعرفي والثقافي من أجل الإصلاح الفكري أو الديني في المجتمع المحلي، فيعني ذلك أن تكون مختلفاً، ومعنى أن تكون مختلفاً فذلك يقود بك إلى أن تكون خارج السياق التقليدي العام، وخروجك عن هذا السياق يطرح مدى قابلية المجتمع التقليدي لما هو جديد، ويتم طرح المسألة بشكل شخصي قبل أن تكون فكرية، ومن المعروف أن السياقات التقليدية لا ترضى إلا بما يتوافق مع سياقها الرجعي حتى لو كان في ذلك مضرة واضحة على المجتمع، فسمة السكون هي السمة الطاغية على الفكر التقليدي. وحين يتم طرح الرؤى الجديدة من داخل السياق التقليدي فإن الصراع قائم لامحالة، وتاريخ الفكر الإنسان عموما، بما فيه الإسلامي، هو تاريخ الصراع بين الفكر التقليدي والفكر التجديدي، أو بمسمى آخر وبلغة محمد عابد الجابري: “التراث والمعاصرة».وكونك مختلفا في الطرح الفكري حتى لو كان ضمن المنظومة التراثية أو الإسلامية؛ فإن ذلك يقود إلى الرفض المطلق للأفكار استناداً على قاعدة سد الذرائع، حتى أصبح هذا السد (أكبر سد في العالم) كما يقول البعض تهكماً من الانغلاق الفكري الذي يتمسح بهذه القاعدة الفقهية، وهي قاعدة بشرية الصياغة مما يعني أنها قابلة للنقد والرد.في السياق التقليدي وطريقة تعامله مع القضايا الفكرية بما أنه سياق شخصاني يعطي القيمة للقائل قبل القول، فإنه يتم التعامل مع شخص الفكرة، وليس مع تشخيصها بمعنى أنه يتم يتم التعامل مع قائلها في مدى قبول الفكرة أو دحضها بسبب من أن قائلها هو فلان بن فلان الفلاني. وهي أحد سمات التقليدية إذ أن القيمة هي للأشخاص قبل أن تكون للأفكار، بل لايتم التعامل مع الفكرة بشكل تجريدي بعيداً عن قائلها. بل لابد من التصنيف وقولبة القضايا بحيث تكون القضية وصاحبها إما: مع أو ضد.الثنائيات التي يتعامل من خلالها الرؤية التقليدية ثنائيات مضللة، وهذه هي مشكلة الرؤى التقليدية إذ ليس في مفهومها إلا الخيرية المطرقة أو الشرّانية المطلقة. إذ كل ماهو في صفنا خيراً محضاً، وكل ماهو عند غيرنا شراً محضاً، ولا يمكن التخفيف من هذه الثنائية إلا بعد الممارسة المتماسة مباشرة مع الآخر المختلف دينياً أو عقائدياً أو إثنيا، وحتى بعد هذا التماس تبقى الرؤية لها جذورها التصنيفية في اللاوعي الفكرية، إذا صح الوصف، بحكم طول التلقين والتعبئة الدينية والمذهبية والعقائدية لمختلف التيارات الفكرية في المجتمع الواحد، من غير أن يطال تخفيف حدة الثنائيات التصنيفية البنية الفكرية لإعادة المساءلة إلا بعد فترة قد تطول أو تقصر حسب رؤية المتماس مع الآخر شخصياً، فالذين القت بهم الحياة لكي يتماسوا ضروريا مع الآخر مهما كان، سواء بسفر أو دراسة أو عمل بحيث يضطر إلى التعامل اليومي اكتشفوا أن الكثير من تصوراتهم تجاه الآخر كانت ضرباً من الوهم أو الخوف غير المبرر، والشيخ عائض القرني أحد هؤلاء، فمن شريطه الشهير: “أمريكا التي رأيت” إلى مقاله قبل فترة والذي يمتدح فيه الأخلاق الغربية مسافة سنوات من التماس والاحتكاك المباشر الذي غير الكثير من تصوراته، وإن كان هذا التغير ما يزال في إطار الرؤية التقليدية حتى الآن، ولم يصل إلى العمل لمساءلة البنى الفكرية قبل القشور البرانية كنوع من الترميمات الخارجية للخطاب الديني المحلي بمسمى الوسطية.في تاريخ العمل التقليدي كان الرفض المطلق لكل ماهو جديد هو السمة الغالبة، ذلك أن البنية التقليدية بنية سلفية الرؤية، ترفض الجديد لمجرد أنه الجديد ولكونه لم يكن معروفاً لدى السلف الأوائل. وحتى في تاريخ الأنبياء كانت الردود على الرسالة الجديدة التي يحملها الأنبياء هو إتباع آثار الأولين، وهذا هو طابع التقليد منذ بدء الخليقة.وكما أن الخطاب التقليدي لا يستطيع أن يتجاوز ذاته ليحقق لذاته موقعاً أفضل في المسيرة الحضارية، فإنه لا يتورع عن الفحش في الكلام تجاه وصف الآخر الحضاري أو الذي يسعى للاستفادة من المنجز الحضاري والثقافي للآخر، والفجور في الخصومة هي أحد سمات العمل التقليدي لتشويه صورة الآخر كأحد المحاولات المستميتة للإبقاء على المكتسبات المادية أو الاجتماعية أو السياسية في بقعة ما على وجه الأرض، ومنتديات الانترنت تطفح بهذا الكيل من التشويه والتحقير للآخر المختلف حتى ليستحي الواحد أن يقرأها أو يستشهد بها كتدليل على مدى الفحش في الكلام والفجور في الخصومة، فضلاً عن أن يكتبها، لكن كل ذلك جائز في عرف من يكتب مثل ذلك مادام في ظنه أن ذلك من نصرة الإسلام كما يعتقد، وهذا التصرف له جذوره التاريخية قبل الإسلام وبعده في المضمر النفسي في السلوك التقليدي، حتى أن ذلك أصبح من أدبيات أهل التقليد في جواز غيبة المبتدعة، وأن ليس لهم حرمة في الإسلام كما هو لدى الحنابلة بالذات لمن يقرأ في تاريخ الفرق الإسلامية.من يفتح موقعاً من مواقع الانترنت يهوله حجم الزيف والكذب والفجور الخصامي تجاه كل من يخالف في الرأي، والمشكلة أن ذلك يدرج على أنه حوار معرفي، يحاول فيه المحاور ردك إلى جادة الصواب، وإن لم تهتد كما هي رؤيته طبعا، فإن أقذع الصفات يمكن لها أن تتلبسك من غير أن تعلم أو حتى أن تفكر أنن تتصرف بالوصف الذي وصفوك فيه. هذا غير الكيد ومحاولات الاستنقاص والازدراء والتصيد في الماء العكر كما يقال. بل يصل الأمر إلى أن يسمح الواحد لنفسه أن يتقوّل على الدين الذي يريد أن يحافظ عليه، ويطلق أحكاما باسم الدين تشويها للآخر في الوقت الذي عد الإسلام أن الفجور في الخصومة من صفات النفاق، مما يوحي بالعجز من هذه التقليدية عن مجاراة الرؤية المعرفية التي يحملها المخالف ومدى ضعف القدرة على الجدل الفكري.لكن برأيي، أن ذلك كله ضريبة الفعل التنويري كما حصل للكثير من التنويريين في الفكر الإنساني، وتاريخ المصلحين والمفكرين والمستنيرين ينضح بالكثير من مثل ذلك، وهذا شيء طبيعي؛ إذ أنه لابد للشهد من إبر النحل كما يقو الشاعر.[c1]* موقع “العربية.نت»[/c]