الحضارات صدام أو حوار 5-5
في ضوء ما تقدم وبالنظر إلى التاريخ العالمي يمكن القول ان الثقافة من حيث هي قوة التاريخ الإبداعية في العلم والادب والفن لم تكن في يوم من الايام موضع صراع وتوتر وقتال على الاقل في معظم تاريخها، إلاّ حينما يتم تسخيرها في الصراعات السياسية الحضارية، اما في ذاتها »الثقافة« فقد خدمت الحوار والتقارب بين الشعوب اكثر من اي شيء آخر، إذ ان الثقافة لايجوز عليها الاحتكار والتسليع، بل هي شأن إنساني عام ينتقل ويتداول من بلد إلى بلد ومن قوم إلى قوم بقدر إهتمام الشعوب في طلبها وقدرتها على إستيعابها وتنميتها فقد انتقلت علوم وفنون وأداب بلاد الرافدين ومصر الفرعونية والصين والهند إلى اليونان بكل يسر وسلاسة، كما استلهمت الحضارة الاسلامية ما استطاعت من التراث الثقافي اليوناني والروماني والهندي والفارسي ولم تستطيع منع علومها وفنونها وأدابها من الانتقال إلى الحضارات الاخرى الاوروبية والهندية والصينية والامريكية وها نحن اليوم لم نجد غضاضة من استلهام علوم وأداب اوروبا وامريكا في الرياضيات والفيزياء والاحياء والكيمياء وكل مجالات العلم والادب والفنون، ولاتوجد لدينا اليوم مشكلة صراع أو صدام ثقافي مع احد كما يحاول هنتجتون تصويره.وعلى صعيد القوة المادية للتاريخ اي المدنية بما هي صناعة وزراعة وعمارة، يشهد التاريخ انه منذ اقدم العصور كانت تنتقل التقنيات الزراعية والحرفية من شعب إلى آخر دون صدام أوصراع وها نحن اليوم نعيش إلى في مجتمعاتنا الشرقية معتمدين في مختلف مناحي حياتنا المدنية في الزراعة والصناعة والعمارة والاستهلاكية السلعية على منجزات المدنية الغربية الحديثة من الكهرباء والطائرات والسيارات واجهزة الاتصال والاعلام وانماط العمارة تصميم وتشكيل وادوات ومواد بناء واثاث ومعظم الاشياء، من تقنيات الحرب وادوات الصراع والهدم....الخ.فلا اعتقد ان هناك من يحاجج بشان الموقف من المدنية او الثقافة بعدها بور للصدام بين الشعوب والامم.غير ان الامر يختلف كلياً حينما ننظر إلى حقل الحضارة التي هي القوة التنظيمية للتاريخ بعناصرها السياسية والتشريع والاخلاق، من المؤكد ان المشكلة تكمن في هذه المنطقة الملتهبة، فالصراع الدائر اليوم كما كان في الامس البعيد ليس صراع اوصدام بين المحراث الخشبي والجرارة الحديثة، ليس صراع بين الجمل والسفينة، ولاصراع بين الخوارزمي وباسكال، أو بين(الف ليلة وليلة) واسطورة دونجوان، او بين نمط العمارة الاسلامي والنمط الحديث او بين ابن خلدون واغست كونت، بل ان الصراع والصدام يقع بين التنظيم السياسي والاداري للمجتمع الغربي الامريكي والتنظيم السياسي التشريعي العربي الاسلامي، بين الشرائع الالهية وبين القوانين الوضعية، بين الدول الديمقراطية وبين الدول الشرقية الاسلامية الصينية الهندية بين القيم والعادات الاخلاقية الاسلامية وبين القيم والعادات الغربية التي يراد فرضها بالقوة.. وبهذا المعنى يمكن ان نفهم صدام الحضارات التي يروج لها هنتجتون معتبرها صراع وصدام ازلي بين الغرب والباقي، حيث يرى هنتجتون ان الغرب يتميز بعدد من السمات عن سائر الحضارات الاخرى وهي :ـ 1ـ التراث الكلاسيكي من الاغريق والرومان. 2ـ المسيحية الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية.3ـ اللغات الاوروبية.4ـ الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية.5ـ حكم القانون.6ـ التعددية الاجتماعية والمجتمع المدني.7ـ الهيئات التمثيلية.8ـ النزعة الفردية.يصعب الاتفاق مع هنتجتون بأن هذه السمات هي جواهر ثابتة في طبيعة الحضارة الغربية، ذلك لاننا نعلم انها تكونت عبر التاريخ مع مشروع الحداثة الغربية وهي متحولة ومتبدلة باستمرار، كما ان اقتصار التراث الكلاسيكي من الاغريق والرومان على الحضارة الغربية يعد زعم منافي للحقيقة، ذلك ان الحضارة العربية الاسلامية كانت اول من استلهم ذلك التراث واستوعبه في النسيج الحضاري والثقافي والمدني الغربي الاسلامي.كما ان اللغات الاوروبية لايمكن عدها سمة مميزة للغرب ذلك لان كل الشعوب لديها لغاتها المنظورة كااللغة الصينية والعربية.كما ان النزعة الفردية في الغرب تعد اليوم مصدر خطر اكثر من كونها مزية إيجابية.في الواقع ان صرخة هنتجتون في صدام الحضارات تنطوي على دلالات متعددة، فهي من جهة ترد على فكرة فوكوياما(نهاية التاريخ والانسان الاخير) والتي كادت تبعث الشعور المطمئن في الرأي العام الغربي بأن عصر الصراع قد انتهى ليبدأ عصر الاستقرار والامان والدعة والسكون، وما يمكن ان يكون بهذه العقيدة لو جرى ترسيخها من خسائر فادحة لملاك الاحتكارات العالمية وتجار الحروب الذين يقودون التاريخ ويشعلون الحروب من اجل الحصول على مزيد من الارباح وهي من جهة اخرى صيحة تحذير للحضارة الغربية الاوروبية الامريكية من الاخطار المحدقة بها، من داخلها ومن خارجها حيث كتب يقول بعد ان يحدد علامات إنهيار الحضارة الغربية في مظاهر كثير.."عندما تصبح الحضارة غير (قادرة) على الدفاع عن نفسها لانها لم تعد لديها "الارادة" للدفاع عن نفسها، فتصبح مفتوحة أمام »الغزاة البرابرة" الذين يجيئون غالباً من حضارة اخرى اكثر شباباً واكثر قوة".ويقترح هنتجتون للحفاظ على الحضارة الغربية في وجه التدهور ان:ـ تحقق تكاملاً سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً اكبر وتنسق بين سياساتها حتى تحول دون استغلال دول الحضارات الاخرى للاختلافات القائمة بينها.ـ تشجع تغريب امريكا اللاتينية وإنحيازها إلى الغرب.ـ تكبح القوة العسكرية التقليدية وغير التقليدية للدول الاسلامية والصينية.ـ تبقي من عملية ابتعاد اليابان عن الغرب وتوجهها نحو التكامل مع الصين.ـ تقبل ان تكون روسيا مركزاً للارثوذوكسية وقوة اقليمية رئيسية ذات مصالح مشروعة في أمن حدودها الجنوبية.ـ تحافظ على تفوقها التكنولوجي والعسكري على الحضارات الاخرى.على هذا النحو ينبغي ان نفهم خطاب الاخر ومضامينه المتخفية فالمفكر الامريكي في خطاب صدام الحضارات عن المحور الذي يدور حوله التاريخ محور" التجارة الحرب الاحتكار« وهو بذلك لايخفي مقاصده بل عبر عنها بكل وقاحة وصلف، بعكس الكثير من المؤرخين امثال تويني وتوفلر وسي رايت ميلز، ونعوم تشوفسكي حيث يرى هذا الاخير ان الامبراطورية الامريكية في الواقع مؤسسة محكوم عليها بالفناء.. انها مثال عالمي للانتحار الكوني الحتمي". ويرى الناقد الراديكالي "جوناثان كوزول""ان العزل التكنولوجي الطويل قد خدر قدرتنا على الفهم الجيد والاحساس وباختصار فإن الحياة الامريكية قد تكون ما يصفه نيشه بـ "الانحلال"ان الفضائع والاعمال الوحشية الحقيقية المتكررة تتكاثر في امريكا العبودية والوحشية العرقية، الاستغلال كل ذلك يتبدى وجهاً حقيقياً للمجتمع الامريكي".لقد تصاعدت رؤيا التشاؤمية التكنولوجية في السنوات الاخيرة من القرن الماضي، فهذا الكاتب الامريكي(ادوارد آبي) في كتابه "اخبار طبية" عام 1980م يتنبا بزوال الدولة الصناعية العسكرية من على وجه الارض خلال خمسين عاماً، وسوف يحل محلها انتصار الحب والحياة والثورة، وفي زيارته إلى مانهاتن عام 1956م يصف المشهد المثير »فخامة باردة جامدة كالقبور" مشهد مرعب لاإنساني اقرب إلى وادي الموت والجماجم مما هو إلى موطن إنساني للسكن.اما المفكر الامريكي اولفين توفلر فيرى ان امريكا تواجه تجمع ازمات لم يسبق لها مثيل منذ أيامها الاولى: نظامها الاسري في ازمة وكذا نظام الرعاية الصحية ونظمها المدنية، ونظام القيم، اما نظامها السياسي فهو اشدها تأزماً..غير انه يرى في الازمة دليل صحة وليس دليل مرض، فهي ازمة ميلاد جديد وحضارة قادمة، هي حضارة الموجة الثالثة ، إذ يرد على هنتجتون بقوله ان الصراع الجوهري الذي نواجهه ليس بين الاسلام والغرب أو الاخرون ضد الغرب كما قال هنتجتون، بل ان الصدام الحقيقي اليوم يدور بين ثلاث موجات حضارية حضارة الموجة الاولى المرتبطة بالارض، وهي تضم كل الشعوب والامم والاديان الذين مازالوا حتى اليوم يخربشون اديم الارض بحثاً عن الرزق كما كان اجدادهم.وحضارة الموجة الثانية الحضارة الصناعية وحضارة الموجة الثالثة حضارة التقنية العالية حضارة المعرفة والمعلومات والاتصالات.[c1]الاسلام والغرب :[/c]ان انكماش العالم المعاصر وتقارب المسافات في الزمان والمكان وتحول العالم إلى قرية كونية قد افضى إلى زيادة الاتصال والتماس بين الناس والدول والشعوب والثقافات والحضارات والاحتكاك المستمر والتأثر والتأثير بين جميع سكان الارض، بحيث انك لن نستطيع ان تعزل حضارة او دولة او جماعة بشرية عن المؤثرات العالمية السلبية او الايجابية المرغوبة والمذمومة، وحينما نأتي على ذكر علاقة المجتمع الاسلامي بالحضارة الغربية نلاحظ ان تلك العلاقة قد شهدت موجات من الصراع والشد والجذب منذ ظهور الدعوة الاسلامية في الجزيرة العربية على يد خاتم الانبياء والمرسلين الرسول الكريم محمد بن عبدالله صلاة الله عليه وسلم.وإذا كنا نعرف قصة الصراع والصدام بين الاسلام والغرب منذ الفتوحات الاسلامية والحروب الصليبية والاستعمار الاوروبي حتى احتلال فلسطين، فإن مايهمنا هنا هو النظر للموقف الاسلامي من الحضارة الغربية في ضوء نظرية التحدي والاستجابة عند ارنولد تويني.يرى تويني ان استجابة المجتمع الاسلامي للتحدي الغربي اكتسبت مسارين : مسار التزمت والسلف والعودة إلى الاصل في الماضي الذهبي.ومسارالتشكيل والمسايرة والتقليد والمستقبلية والسلفية الماضوية: هي محاولة للارتداد إلى احدى تلك الحالات السعيدة التي يتطلع اليها الناس في عصور الاضطرابات بحسرة بعد ان يضفوا عليها مثالية لايسوغها التاريخ، وكما بعد العهد بها اشتد الحنين إليها، الوهابية المهدبة، السنوسية، الامامية.والمستقبلية هي محاولة للهروب من حاضر كريه وذلك بالقفز إلى مستقبل مجهول لايعرفه احد، مصر محمد علي وتركيا آتاتورك. استاذ فلسفة التاريخ والحضارة المساعد ـ جامعة عدن