محمد زكريا في سنة 1924م اشتعلت حركة ابن عبدات في مدينة الغرفة بحضرموت بقيادة عمر عبيد بن عبدات وانطفأت جذوتها سنة 1945م حيث استمرت الحركة لمدة أكثر من عشرين عاماً , وكانت الشغل الشاغل والهم الأكبر لسلطات حكومة عدن البريطانية في تلك الفترة في كيفية ضربها بالمهد قبل أنّ يستفحل أمرها ، ويعظم خطرها . وكيفما كان الأمر ، فقد تمكنت الحركة من إقلاق وإزعاج حكومة عدن البريطانية بشكل كبيرين مما دفع بالأخيرة إلى دعم السلطنتين الكثيرية والقعيطية بالسلاح والذخائر بالإضافة إلى استخدام سلاح الجو الملكي ، والقوات البرية وعلى الرغم من تلك القوة العسكرية التي حشدتها بريطانيا وتحالفها مع الكثيريين والقعيطيين للقضاء على ابن عبدات وحركته إلاّ أنها باءت بالفشل الذريع . وظلت حركة ابن عبدات نيرانها ملتهبة تلتهم أعدائها وخصومها من السلطنة الكثيرية والسلطنة القعيطية والبريطانيين . [c1]في وجدان الفلكلور الشعبي[/c]وبات ابن عبدات وحركته في نظر ووجدان الفلكلور الشعبي الحضرمي رمزاً للبطولة , والفداء ، والتضحيات الجسام التي انبثقت من تراكمات سياسية غاية في الصعوبة في تلك الفترة التاريخية حيث كانت حكومة صاحب الجلالة البريطانية هي صاحبة الكلمة العليا ، واليد الطولى في شؤون حضرموت الساحل ، وحضرموت الداخل حيث كانت المتحكمة بمصائر ومقادير السلطنة القعيطية في المكلا ، والكثيرية في سيئون حيث كانتا خاضعتين تحت معاهدات الولاء والحماية التي أبرمتها بريطانيا معهما . فقد كانت الإمبراطورية البريطانية في أوج قوتها التي لا تغيب عنها الشمس بسبب مستعمراتها المترامية الأطراف في مختلف أنحاء العالم حينئذ , وعندما وقف (( بن عبدات )) في وجهها بكل صلابة وقوة ، فقد حركت حركته الوطنية مشاعر الشعراء الشعبيين ، والرواة الشعبيين ، ورسموا لحركة ( بن عبدات )) ملحمة وطنية غاية في الروعة . وباتت حركة (( بن عبدات )) جزء لا يتجزأ من نسيج التراث الحضرمي الأصيل والذي هو امتدادا لتراث اليمن العريق الواسع والعميق المليء بالملاحم والبطولات .[c1]الحركة والصحوة الإسلامية[/c]والحقيقة أنّ حركة ابن عبدات ، كانت بين شد وجذب ، البعض وصفها بأنها حركة وطنية تهدف إلى إصلاح الحياة السياسية ، الاقتصادية ، والاجتماعية في حضرموت والبعض الآخر اتهمها بأنها كانت حركة تسعى إلى أغراض شخصية بحته ومنافع ذاتية بعيدة كل البعد عن الغرض الوطني . وأن (( بن عبدات )) كان يرمي من وراء حركته إقامة دولة خاصة به تعترف بها بريطانيا . وعلى أية حال , ولقد أقام عمر عبيد بن عبدات الكثير والكثير جداً من تلك الإصلاحات في مدينة الغرفة الواقعة في وادي حضرموت بالقرب من مدينة سيئون عاصمة الدولة الكثيرية . مما أزعج السلطات البريطانية إزعاجاً كبيراً في حضرموت من تلك الحركة التي قد توقظ روح المقاومة والوعي الوطني ضدها في المنطقة . وفي هذا السياق ، تقول الباحثة شفيقة العراسي بعد أنّ نوهت إلى سيطرة ابن عبدات على مدينة الغرفة في سنة 1924م : " بعد أنّ سيطر عليها (( بن عبدات )) عام 1924م ، وأحدث فيها إصلاحات سياسية واقتصادية تعارضت مع السياسة الاستعمارية البريطانية التي تهدف إلى أنّ تكون حضرموت جسداً بلا روح . واتخذت السلطات البريطانية من حلفائها ( القعيطي والكثيري والعلويين ) وسيلة لقمع حركة (( بن عبدات )) لتحول دون تفرده بالسلطة ، والعمل على إخضاعه لسلطة الكثيري " . وفي واقع الأمر أنّ حركة ابن عبدات ، كانت قيمها ومبادئها مصبوغة بأفكار وآراء الجمعية الإرشادية التي تأسست في اندونيسيا التي كانت تستمد مقومات أفكارها من الصحوة الإسلامية التي فجرها جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده وغيرهما من كبار العلماء والمفكرين الإسلاميين حينئذ . وهذا ما أكده حامد قادري ، قائلاً : " كان الإرشاد يمثل تيار الإسلام الحديث كالذي يدعو به السيد جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، والسيد رضا رشيد " .[c1]الحركة والروح الوطنية [/c] ويبدو انّ حركة ابن عبدات لم تتأثر بأفكار جمال الدين الأفغاني فحسب بل تأثرت أيضاً تأثيراً واضحاً بالحركة الوطنية الحضرمية التي قامت في أرض اندونيسيا ضد المستعمر الهولندي الذي كان يخشى الحضارمة أشد الخشية ويعمل على التفريق بين السكان الاندونيسيين الأصليين والمهاجرين الحضارمة بهدف تمزيق شملهم ، وأضعاف شوكة المشاعر الوطنية التي سرت في أرواحهم إزاء وجوده المستعمر الهولندي باندونيسيا . وهذا ما دفع بقائد الحركة عمر عبيد ابن عبدات أنّ يستلهم أفكار جمال الدين الأفغاني , وتلميذه الشيخ محمد عبده ، ورضا رشيد فضلاّ عن استلهامه للروح الوطنية التي سرت في اندونيسيا والعمل على تطبيقيهما في حضرموت وعلى وجه التحديد في مدينة الغرفة ومن تلك المدينة يؤسس دولة قوية قاعدتها الصحوة الإسلامية وقمتها الروح الوطنية تعيد لحضرموت وعلى وجه الخصوص لوادي حضرموت وجه الإسلامي المشرق ، ومبادئ الوطنية المضيئة . وتوضح شفيقة العراسي بأن الوعي السياسي في حضرموت كان ناضجاً بسبب إطلاعه على الحركات السياسية الوطنية التي كانت سائدة في اندونيسيا إبان الإحتلال الهولندي بخلاف محمية عدن الغربية التي كانت منعزلة أو شبه منعزلة من التيارات الوطنية بسبب تكريس بريطانيا لسياسة المهاجرين في مستعمرة عدن بغرض عدم قيام التمردات والثورة في تلك المستعمرة الهامة . وفي هذا الصدد ، تقول : " . . . بالنسبة لحضرموت يوجد فيها نسبة عالية من الوعي والتطور الفكري أكسبته بحكم علاقات المهاجرين وذوي الأموال مع شعوب الهند ، ومنطقة جنوب شرق آسيا التي تستعر حينئذ بالحركات الوطنية . وسمحت لها حدودها الجنوبية المطلة على المحيط الهندي بالتواصل مع العالم الخارجي " . وكما قلنا سابقاً : أنه من المحتمل أنّ ابن عبدات تشربت أفكاره بالحركات الوطنية وأيضاً بآراء وقيم الفكر التنويري الإسلامي الذي كان من رواده جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، ورضا رشيد . وكان من الطبيعي أنّ يحدث التصادم العنيف بين السلطات البريطانية وحركة أبن عبدات وبعبارة أخرى بين قوى تسعى إلى الخروج من الظلمات إلى آفاق النور الواسع وقوى عاتية جبارة متغطرسة تسد منافذ النور حتى يمد الليل الدامس ستائره على كل مكان من حضرموت .[c1]الحركة وخنقها في المهد[/c]وفي الحقيقة أنّ حركة أبن عبدات منذ أنّ انطلقت من مدينة الغرفة في وادي حضرموت نسجت حولها المؤامرات والدسائس لخنقها في المهد . في الوقت الذي كان يأمل ابن عبدات من السلطنة الكثيرية أو الشخصيات المعروفة في السلطنة الوقوف بجانبها لكونها ، كانت تسعى الحركة إلى نشر التطور في مختلف نواح الحياة السياسية الاقتصادية ، والاجتماعية ، فإذا عدد من الأسر أو الشخصيات المعروفة والذي لها وزن في الحياة السياسية والتي تعود جذورها إلى القبائل الكثيرية تقف في وجه حركة ابن عبدات المنتمي أيضاً إليها. فنجد سالم بن جعفر الكثيري ـــ والذي كان أحد أعضاء الدولة الكثيرية الذي وقع على معاهدة 1918م بين الدولة القعيطية وبريطانيا والتي كانت مجحفة بحق الأولى ـــ ينبري لحركة ابن عبدات وذلك بتشجيع ودعم من السلطات البريطانية لقمح تلك الحركة التي كانت تخشى أنّ تسبب الكثير من المشاكل والقلاقل والاضطرابات السياسية في طول وعرض حضرموت. ويبدو أنّ سالم بن جعفر الكثيري ، كان رجلاً طموحاً ويسعى أنّ يكون له حظوة كبيرة و متميزة على مسرح الحياة السياسية في السلطنة الكثيرية ولكنه كان في نفس الوقت ليس لديه أفكار وقيم وآراء من أجل نهضة مجتمعه بخلاف عمر بن عبيد ابن عبدات الذي استقى أفكاره وقيمه من الصحوة الإسلامية التي رسم ملامحها جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده ، ورضا رشيد من جهة وتشربه أيضاً ل للأفكار الوطنية التي سادت أجواء اندونيسيا السياسية في عهد الاستعمار الهولندي من جهة أخرى . [c1]ما أسباب استمرارها ؟[/c]وفي واقع الأمر ، ما كانت حركة ابن عبدات تستمر لمدة أكثر من عشرين عاماً من سنة 1924 إلى 1945م ، وتقارع القوى البريطانية وحلفائها من السلطنة القعيطية والكثيرية بل وتوقع فيهم الكثير من الخسائر العسكرية الفادحة وذلك بسبب وقوف الكثير من القبائل الصعبة المراس في وادي حضرموت وأهمها قبائل أو قبيلة الحموم , وبعض القبائل اليافعية التي انضمت تحت لواء حركة ابن عبدات . وكان من الأسباب الرئيسة التي دفعت قبائل الحموم من الانضمام إلى حركة (( بن عبدات )) هو أنّ السلطات البريطانية منعت تلك القبائل من مصدر رزقها التي كان يأتيها من جمالها التي كانت تحمل البضائع والسلع من حضرموت الساحل إلى حضرموت الداخل والعكس . فقد " كان يوجد طريقان من الساحل إلى الوادي ، طريق الشحر القديمة تمر (( الجول )) وجمالتها قبائل (( الحموم )) . وطريق المكلا الوادي ، جمالتها آل سيبان . وأنشأت السلطات البريطانية طريقاً للسيارات لنقل المؤن والمواد التجارية إلى الوادي عبر أراضي هذه القبائل ، دون تعويضات لهم لأن عملية النقل التجاري عبر السيارات حرمت هذه القبائل مصدر رزقها المتمثل في اعتمادها على الجمال كوسيلة وحيدة لها للنقل التجاري " . والحقيقة أنّ تلك الأخطاء التي وقعت بها بريطانيا المتمثلة بعدم تعويض تلك القبائل أججت من ثورة نيران حركة (( بن عبدات )) حيث شدت من أزرها وقوة من شوكتها ضد البريطانيين وحلفائها من السلطنة القعيطية بصورة عامة والكثيرية بصورة خاصة وأحدثت إزعاجاً شديداً للسلطات البريطانية . فقد " وجدت هذه القبائل مساندتها لحركة (( بن عبدات )) ، ونهب سيارات النقل تعبيراً عن احتجاجها على إقامة بريطانيا لمشروع الطرقات في أراضيها لأنه يضر بمصالحها الحيوية وأصبحت الطرق إلى الوادي غير آمنة " . [c1]إنجرامس[/c]والغريب في الأمر ، أنّ (( إنجرامس )) المستشار البريطاني المقيم في حضرموت القابض على مقاليد الحكم سواء في العاصمة القعيطية في المكلا أو في العاصمة الكثيرية في سيئون والذي طغى نفوذه على السلطنتين لم ينهج السياسة الحكيمة التي كانت في الإمكان أنّ تجنب السلطات البريطانية القلاقل والإضطرابات وتمردات قبائل الحموم , ويبدو أنّ غطرسته ، وجبروته واعتماده على نفوذه ، قد أفقدته توازن الحكمة السياسية في معالجة مسألة قبائل الحموم بالوسائل السلمية فسلك أسلوب العنف والبطش والقوة ظناً منه أنه في الإمكان إخماد تمرداتهم القبلية , وتنقل شفيقة العراسي عن حامد بن أبي بكر المحضار دور إنجرامس السياسي الخطير على مجريات الأمور في حضرموت ، قائلة : " وأعطى (( حامد بن أبي بكر المحضار )) صورة واضحة عن دور ( إنجرامس ) في حضرموت ، إذ يقول : " . . . أصبح السلطان موظفاً وربما كان بعض الموظفين أكثر نفوذاً منه لقوة صلته بالمستشار المفوض على الحكومتين . . . ، وكان المستشار يتمثل تارة في رجل واحد يتولى دفة إدارة السلطنتين ( السلطانتين ) وتارة في رجلين واحد يتولى دفة إدارة السلطنتين ( السلطانتين ) وتارة أخرى رجلين إنجليزيين يقيم أحدهما في العاصمة القعيطية والأخرى في العاصمة الكثيرية توجههما إدارة إنجليزية واحدة . وكان ذلك بداية النهاية في حضرموت لحكم الأسرتين القعيطية والكثيرية . وكان بداية التدخل الإنجليزي البغيض في كل سلطنات , وإمارات الجنوب على درجات متفاوتة . وكان أشد وطأة في حضرموت منه في غيرها " . [c1]قبائل الحموم وبريطانيا [/c] والحقيقة أنه من نتائج سياسة العنف والبطش ، والقوة المفرطة التي أتبعها إنجرامس المستشار السياسي البريطاني في حضرموت إزاء قبيلة أو قبائل الحموم أدت إلى زيادة اشتعال مقاومة تلك القبائل والوقوف بقوة مع حركة ابن عبدات ، فصارت الطرق التي تخضع لسيطرتها غير آمنة بسبب عمليات النهب والسلب لسيارات النقل المحملة بالبضائع والسلع بغرض الضغط على الحكومة البريطانية بدفع تعويضات عن الخسائر التي سببتها من جراء شق الطرق الواقعة تحت نفوذهم والتي من نتائجها حرمان جمالهم من نقل البضائع والسلع من حضرموت الساحل إلى حضرموت الداخل والعكس ـــ كما أسلفنا ـــ والتي كانت مصدر رزقهم الرئيس . وفي هذا السياق ، تقول شفيقة العراسي : " ووجدت هذه القبائل مساندتها لحركة بن عبدات ، ونهب سيارات النقل تعبيراً عن احتجاجها على إقامة بريطانيا لمشروع الطرقات في أراضيها ، لأنه يضر بمصالحها الحيوية وأصبحت الطرق إلى الوادي غير آمنة " . وقلنا سابقاً : أنّ بعض القبائل اليافعية انضمت إلى الحركة عندما استفادت من الإصلاحات السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية الذي أقامها (( بن عبدات )) [c1]بريطانيا ترفض[/c]والحقيقة أنّ إنجرامس المستشار البريطاني المقيم بحضرموت ركب رأسه ورفض التفاهم مع قبائل الحموم بعد أنّ أبدت تلك القبائل استعدادها بوقف حركة التمردات والعصيان ، وعقد هدنة مع السلطات البريطانية يكون بمقتضاها أنّ تستخدم السيارات فقط لنقل الركاب وأمّا البضائع والسلع تنقل على جمالهم ولكن السلطات البريطانية رفضت طلبهم مما زاد من إشتعال تمردات قبائل الحموم . وقلنا سابقاً أنّ بعض القبائل اليافعية انضمت إلى حركة (( بن عبدات )) بسبب ما شاهدته ولمسته من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في مدينة الغرفة مما قوى من ساعد الحركة .[c1]القوة المفرطة[/c]والحقيقة أنّ بريطانيا منذ عام 1928م وتحديداً بعد الحرب العالمية الأولى ، اتبعت سياسة التوغل إلى داخل المناطق الداخلية وهي سياسة التقدم إلى الأمام Forward Policy ) The ) ــ على تعبير شفيقة العراسي ـــ ومن أجل تنفذ تلك السياسة اعتمدت على قوة سلاح الجو الملكي في إخماد التمردات والعصيان التي ، قد تنفجر في محمية عدن الغربية ( المحميات التسع ) أو في محمية عدن الشرقية ( حضرموت ) . وعندما اشتعلت حركة ( بن عبدات ) في مدينة الغرفة بحضرموت وعلى وجه التحديد في حضرموت الداخل الواقعة ضمن حدود و نفوذ الدولة الكثيرية ، سارعت حكومة عدن البريطانية بإرسال سلاح الجو الملكي لإسكات صوت الحركة من جهة وقمع تمردات قبائل الحموم من جهة أخرى. وعلى الرغم من أسلوب القوة المفرطة التي نهجتها بريطانيا وعمليات الإبادة لتلك القبائل التي كانت تدافع عن مصدر رزقها إلاّ أنها رفضت الخنوع والإستسلام " ... لأسلوب القهر بل وحدت قواتها مع قوات (( بن عبدات )) الذي وجدت ثورته عام 1940 متنفساً للتعبير عن رفضها للوجود البريطاني في المنطقة " . والغريب في الأمر ، أنّ إنجرامس الدراية العميقة والواسعة بعادات وتقاليد ، والحياة الاجتماعية للقبائل الحضرمية ومنها قبائل الحموم التي تعد من أقوى القبائل في تلك المنطقة ، كان عليه أنّ يدرك أنّ تلك القبائل من عاداتها وتقاليدها منذ الماضي البعيد تبغض المركزية ، وتتمرد على كل من يحاول المساس بحريتها واستقلالها وأنها لا تخضع إلاّ لشيخها ، فالقبيلة تمثل لهم الحصن الحصين ، والركن الركين الذي يجب بل ويتوجب الذود عنه مهما كانت قوة الخصم . ولكن إنجرامس يتبع أسلوب العنف والقهر للسيطرة على قبائل الحموم مما زاد من تلك القبائل العناد والإصرار على مواجهة السلطات البريطانية والانضمام إلى حركة (( بن عبدات )) . [c1] معاهدة 1918م [/c]والحقيقة أنه من الأسباب التي أججت نار ثورة (( بن عبدات )) هي معاهدة 1918م التي منحت الدولة القعيطية مكاسب وامتيازات كثيرة على حساب الدولة الكثيرية وذلك بضغط من حكومة عدن البريطانية ومن جراء ذلك فقد رفض الكثير من آل كثير تلك المعاهدة المجحفة بحقهم . وفي هذا الصدد ، يقول ثابت صالح اليزدي : " رفض آل كثير الموافقة على المعاهدة عندما عاد وفدهم إلى حضرموت احتجاجا على البنود الواردة فيها ، لأن بنود المعاهدة ، قد جعلت من دولتهم تابعة للدولة القعيطية ومنعتهم من إقامة أية علاقات سياسية أو تجارية مع الحكومة البريطانية إلاّ عبر السلطان القعيطي . وبذلك أصبح القعيطي في نظرهم يتمتع بالإشراف على الشؤون الخارجية لدولتهم بالإضافة إلى أنّ المعاهدة ، قد حددت مناطق حكم الدولة الكثيرية ولكنها لم تحدد مناطق حكم القعيطي " . [c1]الدولة الكثيرية وعلي سعيد باشا[/c] والسبب الآخر الذي دفعهم إلى رفض المعاهدة الاتصالات المكثفة التي أجرها علي سعيد باشا قائد الحملة العثمانية في لحج. " فقد كتب إلى السلطان الكثيري يعلمه بأنّ الحكومة البريطانية . قد وضعت حضرموت تحت الحماية البريطانية . وطلب منه أنّ يرفض أية حماية بريطانية على بلاده . وحذره أيضاً من النوايا المبيتة التي يخفيها الوزير حسين المحضار ( وزير السلطان القعيطي ) عند زيارته لوادي حضرموت التي تدخل في إطار المخطط المرسوم لجعل كل حضرموت خاضعة للسيادة القعيطية ، ومحذراً في نفس الوقت من أنّ ذلك إذا تم فإنه سيجعل حضرموت تحت النفوذ البريطاني ، كما لفت نظره إلى المؤامرات والدسائس التي تحيكها بريطانيا ضدهم في حضرموت " . والحقيقة لا يجب أنّ نعول كثيراً على أهمية وخطورة رسالة علي سعيد باشا بأنها ، كانت من الأسباب التي جعلت آل كثير يرفضون معاهدة 1918م . فقد كان علي سعيد باشا في وضع لا يسمح له أنّ يؤثر على الآخرين أو بعبارة أخرى أنّ يكون له وزن سياسي ثقيل على ساحة حضرموت السياسية بسبب أنّ الدولة العثمانية ، كانت قد خرجت من الحرب العالمية الأولى مهزومة بعد هزيمتها من الحلفاء بل بعض من مناطقها الهام في تركيا ، قد تم احتلالها من الحلفاء ومنهم اليونانيين ألد أعدائها ، وأنه كان على وشك أنّ يرحل هو وقواته من لحج على السفن الإنجليزية إلى استنبول . [c1]تباين في الآراء [/c]ولقد تباينت الآراء والأفكار ، والتحليلات التاريخية حول حركة (( بن عبدات )) التي انطلقت في سنة 1924م من مدينة الغرفة بالقرب من سيئون . فهناك من يصف الحركة بأنها حركة وطنية قامت لمقارعة البريطانيين الذين ، كانوا المتحكمين بمصير حضرموت الداخل وتحديداً الدولة الكثيرية التي ذاقت الأمرين من سياسة إنجرامس المستشار السياسي المقيم البريطاني في حضرموت المنحاز كلية إلى السلطنة القعيطية. وهناك بعض الآراء تقول انّ (( بن عبدات )) كان يسعى من وراء حركته التي أطلت برأسها . إقامة دولة جديدة منسلخة عن الدولة الكثيرية تعترف بها بريطانيا ، وأنّ يكون إنجرامس المستشار السياسي البريطاني مستشاراً له أو أحد المستشارين البريطانيين . ويفهم من هذا أنّ (( بن عبدات )) ، كان يطمح ويطمع إلى الزعامة والرئاسة في وادي حضرموت وأنّ تعترف بدولته حكومة عدن البريطانية . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور محمد سعيد القدّال ، وعبد العزيز علي بن صلاح القعيطي : " وفي عام 1924 استولى عمر عبيد بن عبدات على مدينة الغرفة وحصنها بسور منيع وأعلن استقلاله عن الدولة الكثيرية . وطلب من الإنكليز الاعتراف به سلطاناً وأنّ يكون إنجرامس مستشاراً له " . [c1]شخصية ابن عبدات [/c]ويسهب كل من محمد القدال ، وعبد العزيز القعيطي في وصف شخصية ابن عبدات وأبن أخيه اللذين قادا الحركة ضد البريطانيين ، وقد وصفا شخصيتهما أنهما كانا غريبا الأطوار ، فيقولا : " وكان عمر بن عبدات شخصاً غريب الأطوار لا يفارق مسدسه يده وجلب عتاداً كثيراً ، وسيارة مصفحة من نوع غريب ، وجعل الغرفة ترسانة أسلحة . وكان ابن أخيه عبيد أيضاً غريب الأطوار ، لا يؤاكل أحداّ آخر . ولا يشرب الماء إلاّ في كوب من قرن الخرتيت لأنه يمتص السم كما يقال " . ويضيفان : " فعمر وابن أخيه كلاهما مصابا بداء الارتياب ( Paranoia ) وهو نوع من جنون العظمة وحتى علي بن صلاح ـــ وهو أحد سلاطين الدولة القعيطية ـــ ، يقول عن عبيد إنه " رجل شاذ لا يعرف الاتزان ، ولا يحسن تقدير الأمور " . وفي موضع آخر يقول : " إنه كان يتوقع قيام ابن عبدات بأشياء (( بالنسبة للرجل نظراً لحالته النفسية الشاذة واغتراره بالانتصارات الوقتية التي أحرزها " . ويعقب على ذلك الدكتور محمد القدّال ، عبد العزيز القعيطي ، قائلان : " ورغم اختلاف الأوقات التي قيلت بها تلك الروايات وأهدافها إلاّ أنها تتفق على أمر واحد وهو غرابة أطوار الرجل وأبن أخيه " .[c1]تفنيد الآراء[/c]وينبغي لنا هنا الوقوف على ما قيل عن ابن عبدات وابن أخيه عبيد بأنهما شخصيتان غريبا الأطوار . فقد جانب كل من محمد القدّال , وعبد العزيز القعيطي الحقيقة ولم ينصفا الرجلان . فقد كان من الطبيعي أنّ يأخذ كل من الرجلان ابن عبيد وأبن أخيه الحذر كل الحذر . فقد كانت السلطات البريطانية تترصد بهما الدوائر بإضافة إلى الدولة الكثيرية والقعيطية ، فكانوا يعملون بشتى الطرق والوسائل على وئد الحركة والعمل على تصفية ابن عبدات الذي تعرض لحادث أدى إلى وفاته وسنشرح تلك الواقعة بعد قليل . ويلفت نظرنا ، أنّ السلطان علي بن صلاح القعيطي هاجم حركة (( بن عبدات )) أو على وجه التحديد هاجم ابن عبدات , وفي وقت كانت الحركة في الرمق الأخير من حياتها أو قل إذا شئت في طريقها إلى الاحتضار. فقد كان لا من الشخصيات السياسية الهامة الحضرمية التنصل من الحركة ومن قائدها بعد استسلمت ورفعت الراية البيضاء للسلطات البريطانية وذلك بعد أنّ غاب ابن عبدات عن مسرح الحركة بوفاته عام 1939م والذي قادها بقوة ومثابرة وعزيمة ضد بريطانيا العظمى في حضرموت على الرغم من إدراكه بقوة خصمه . ولقد كان لموته ضربة قاصمة للحركة التي قادها منذ 1924 وإلى 1939م . وعلى الرغم من ذلك ، فقد حمل راية حركة (( بن عبدات )) أبن أخيه عبيد بعد وفاته حتى عام 1945م . واضطر أخيراً إلى الاستسلام وذلك بعد أنّ تكالبت عليه كافة القوى المعادية للحركة المتمثلة ببريطانيا ، والسلطانتين الكثيرية والقعيطية . والغريب في الأمر ، أنّ محمد القدّال ، وعبد العزيز القعيطي يصران بأنّ ابن عبدات كان يسعى إلى مطامح ذاتية به وهو أنّ يؤسس دولة له على أنقاض الدولة الكثيرية أو بعبارة أخرى ، كان ابن عبدات يسعى سعياً حثيثاً إلى الزعامة والرئاسة وأبهة الحكم ـــ على حد زعمهما ـــ . فهذا الكلام مردود عليه ، فــ (( بن عبدات )) ناضل ونافح وقارع البريطانيين قرابة 15عاماً ، وخاض معارك شرسة ضدهم وضد وحلفائها من الدولة الكثيرية والسلطنة القعيطية وهزمهم شر هزيمة . وتلك صفات رجل لا يطمح ولا يطمع إلى السلطان ، والصولجان ، والحكم . فقد وضع في نصب عينيه أنّ يحدث صحوة إسلامية في المجتمع الحضرمي على غرار الصحوة الإسلامية التي نادى إليها جمال الدين الأفغاني . وأنّ ينفخ روح الوطنية في جسد الأمة المسجى التي عبثت بها بريطانيا وحلفائها من الكثيريين والقعيطيين . ودليل آخر بأنّ حركة (( بن عبدات )) لم تكن لها أطماع وأطماح ذاتية ، فإنها لم تنطفئ جذوتها بعد رحيل مؤسس الحركة ، بل ظلت مستمرة حتى 1945م . واستمر ابن أخيه (( عبيد )) أكثر من خمس سنوات يحمل مشعل الحركة ضد بريطانيا العظمى . [c1]الحركة والحصار الاقتصادي[/c] والحقيقة ما كانت الحركة تنطفئ جذوتها لولا الأوضاع السياسية العاصفة التي ساعدت البريطانيين على إخمادها المتمثلة بوفاة مؤسس الحركة عمر عبيد بن عبدات والتي كانت ضرب قاصمة للحركة ـــ كما قلنا سابقاً ـــ ، وبعد وفاته سارعت بريطانيا بوضع الخطط الكفيلة بالقضاء على تلك الحركة وإخماد صوتها إلى الأبد وهي إحكام طوق من الحصار الاقتصادي المُحكم على الحركة . وفي هذا الصدد ، تقول ، شفيقة العراسي : " و شكلت قوة (( بن عبدات )) خطراً حقيقياً على أمن واستقرار السلطات البريطانية في حضرموت ، إذ كانت تهدد بفقدان هيبتها وجبروتها في المنطقة . استغل (( إنجرامس )) حادثة وفاة عمر عبيد بن عبدات )) في بداية عام 1939م ، وسافر إلى (( اندونيسيا )) و (( الملايو )) في العام نفسه . . . إلاّ أنّ (( إنجرامس )) أراد أنّ يحقق بهذه الزيارة أهدافاً سياسية غير معلنة يضمن بها القضاء على قوة (( بن عبدات )) المالية وذلك من خلال الحصول على تأييد واسع للسلطان الكثيري من قِبل المهاجرين العلويين وغيرهم والتأثير على الأثرياء الذين يؤيدون (( بن عبدات )) وحثهم الكف عن تقديم مساندتهم المالية للقوى المعارضة لبريطانيا . وحاول (( إنجرامس )) في الوقت نفسه التنسيق مع السلطات البريطانية في (( سنغافورة )) لفرض القيود القانونية على التحويلات المالية الكبيرة المرسلة إلى (( بن عبدات )) في الغرفة بهدف حرمانه من مصدر قوته المادية لإضعافه وإرغامه على الرضوخ لشروط السلطات البريطانية " . [c1]هل قتل ؟[/c] والجدير بالذكر أنّ الباحثة شفيقة العراسي ذكرت في سياق حديثها عن وفاة قائد الحركة ابن عبدات ، بقولها بالحرف : " استغل (( إنجرامس )) حادثة وفاة عمر بن عبيد بن عبدات في بداية عام 1939م " . وأكبر الظن أنّ شفيقة العراسي لم تسوق تلك العبارة اعتباطا بقولها " حادثة وفاة عمر عبيد بن عبدات " اعتباطاً ، فكلمة (( حادثة )) تعني أنه تعرض للقتل أو إلى حادث ما أدى إلى وفاته أي أنه لم يمت موتاً طبيعياً . ومن المحتمل أنه قد يكون قتل على يد الإنجليز وأعوانهم من الكثيريين والقعيطيين ونستخلص من ذلك أنّ سحب من الشكوك تحوم حول وفاة (( بن عبدات )) .[c1]الهوامش : [/c]شفيقة عبد الله العراسي ؛ الساسة البريطانية في مستعمرة عدن ومحمياتها 1937 ـــ 1945 ، الطبعة الأولى 2004 ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ، عدن ــ الجمهورية اليمنية ـــ .حامد قادري ؛ كفاح أبناء العرب ضد الاستعمار الهولندي ، الطبعة الأولى 1998م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر . الدكتور محمد سعيد القدّال ، عبد العزيز علي بن صلاح القعيطي ؛ السلطان علي بن صلاح القعيطي , الطبعة الثانية 2001 ، دار الساقي ، بيروت ـــ لبنان ـــ . ثابت صالح اليزدي ؛ الدولة الكثيرية الثانية في حضرموت 1845 ـــ 1919، الطبعة الأولى 2002 ، جامعة عدن ، دار الثقافة العربية ـــ الشارقة ــــ . * الغرفة : بضم الغين ، وسكون الراء . مدينة حضرمية مشهورة ، غربي مدينة سيئون بمسافة 5ك. م . يعود تاريخ إنشائها إلى القرن السابع الهجري / القرن الثالث عشر الميلادي . المصدر: إبراهيم أحمد المقحفي ؛ معجم البلدان والقبائل اليمنية ــ الجزء الثاني ـــ سنة الطباعة 1422هـ / 2002م . دار الكلمة للطباعة والنشر والتوزيع ــــ صنعاء ــــ الجمهورية اليمنية ـــ .