مدينة عدن
محمد زكريا شجرة القات التي ألهمت و ألهبت مخيلة الشعراء الشعبيين فالبعض منهم من وصف أوراق غصونها بالزمرد ، والبعض الآخر شبهها بفتاة هيفاء القوام مليحة الجمال سماها ( غصن البانة ) . ومثلما ألهبت شجرة القات الشعراء ألهبت ـ كذلك ـ الساسة البريطانيين في مستعمرة عدن وعلى رأسهم المندوب السامي هيكنبوثم ( Hickinbotham ) المعروف عنه بغطرسته وغروره الشديدين الذي استخدم القات وسيلة ضغط سياسية واقتصادية على السلطان الشاب علي عبد الكريم سلطان لحج ( 1952 ـ 1958م ) الذي رفض مشروع الفيدرالية في إمارات الجنوب العربي من ناحية والذي نادى بالاستقلال عن التاج البريطاني من ناحية أخرى [c1]ورقة ضغط [/c] لقد استخدم المندوب السامي هيكنبوثم ـ كما قلنا سابقا ـ القات وسيلة سياسية واقتصادية للضغط على السلطان الشاب علي عبد الكريم الذي كان جذوة متقدة من الحماسة الوطنية وخصوصا عندما قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952 وذلك بعد أن أعتلى السلطنة اللحجية ببضع شهور. والحقيقة لقد فكر وقدر هيكنبوثم في طريقة لإرهاب السلطان الشاب علي حتى يعود إلى حظيرة حكومة صاحبة الجلالة البريطانية ويخضع للأملاءات التي تمليه عليه بريطانيا العظمى . ولقد بدأ هيكنبوثم بتنفيذ خطته قبل افتتاح جلسة المجلس التشريعي العدني في 25 / 3 / 1957م بأن أعوز إلى أعضاء المجلس والذي كان أعضاءه يعينوا من قبله أو بمعنى آخر بعد تزكيته لهم لحكومة صاحبة الجلالة . وتمثلت خطته بمنع القات في مستعمرة عدن . ولقد طرح أسباب ذلك في تقريره بشكل جيد والذي من يقرأه من أول وهلة يشعر أن السلطات البريطانية حريصة كل الحرص على المجتمع العدني من خلال محاربتها لآفة القات التي تنخر في كيانه وتسبب أضرار صحية واقتصادية على مستعمرة عدن وأهلها .[c1]ولد ميتا [/c]والحقيقة لقد علق أحد المؤرخين السياسيين على تقرير المندوب السامي السير هيكنبوثم قائلا : " بأن قرار المنع ظاهره الرحمة وباطنه العذاب الشديد " . ويفهم من ذلك أن المندوب السامي أوهم أعضاء المجلس التشريعي بأن القات آفة يجب القضاء عليها من خلال منعه من دخوله إلى عدن . ولكن الحقيقة تبقى هي ضرب السلطان علي عبد الكريم اقتصاديا من خلال منعه من العائدات المالية الكبيرة الذي يجنيها من ضرائب مرور القات في أراضي السلطنة اللحجية إلى المستعمرة وقالت الصحفية البريطانية ماور ( Mawer ) في صحيفة الجارديان ، أن قرار السير هيكنبوثم المندوب السامي في المستعمرة المتمثلة بمنع القات فيها سيحدث في المستقبل القريب جدا أضرار بالغة على المجتمع العدني من ناحية وعلى سياسة السلطات البريطانية من ناحية أخرى . وتمضي في حديثها ،تقول بما معناه : " أن قرار المنع ، قرارا انفعاليا لم يستند على حقائق موضوعية بمعرفة عادات وتقاليد عرب عدن والمتعربين , وتعجب ماور كيف بعد ذلك الاحتلال الطويل للمستعمرة لم يفهم المسئولين وعلى رأسهم هيكنبوثم جذورعادات وتقاليد تعاطي القات فيها ؟ ثم تطرح سؤالا آخر هو كيف سمحت وزارة المستعمرات أن يخرج هذا القرار إلى حيز الوجود بالرغم من خطورته ؟ . وتعقب ، فتقول بما معناه : " يبدو أن وزارة المستعمرات البريطانية في واد وما يحصل في مستعمرة عدن في واد . وتطرح سؤالا هاما وهو كيف يمكن لمثل هذا القرار أن يجد طريقه إلى النجاح ، لا شك أنه قررا فاشلا ، أنه قرارا ولد ميتا ". وفي نفس المسألة يطرح الصحفي الهندي البريطاني ( Hamudie ) في جريدة الأبزورفر سؤالا وهو : " هل يمكن مثل هذا القرار الذي ظهر على سطح مستعمرة عدن فجأة أن يلغي عادات وتقاليد القات التي ترسخت جذوره في تربة المجتمع العدني مئات السنين الطويلة ؟ .[c1]رمز للهوية [/c]ولسنا نبالغ إذا قلنا أن قرار منع القات في عدن أثار حماس الكتاب سواء كان المؤيدين والمعارضين لذلك القرار المثير الجدل وصارت الصحف المحلية في عدن منبرا لمختلف تباين الآراء والأفكار والأقوال وبالأحرى أن عدن شهدت حركة ثقافية ساهم فيها الأدباء والشعراء والكتاب . ومن نتائجه ـ أيضا ـ أنه أيقظ الروح الوطنية بين أبناء عدن وعلى وجه الخصوص بين المثقفين وبعض الأحزاب السياسية التي كانت ترى في ذلك القرار محو للشخصية اليمنية وتعدى صارخ على حرية أبناء عدن .وبذلك صار القات رمزا للهوية اليمنية ـ إن صح ذلك التعبير ـ .[c1]حديث الساعة [/c] ويقول بعض المعاصرين لقرار منع القات في عدن أمثال الكاتب والقاص حسين سالم باصديق بما معناه : " بأن مجالس القات في عدن قد غاصت بمختلف الفئات الاجتماعية وكان قرار المنع هذا حديث الساعة , وحضرها الكثير من وجهاء عدن ودار الحديث فيها عن ذلك القرار المثير والعجيب , وكان الرأي العام في عدن الأعم والأغلب ضد ذلك القانون أو القرار الذي يعمل على تصفية القات في عدن دون النظر إلى حقيقة الواقع في المجتمع العدني الذي كان يعتبر القات أو مجالس القات جزء لا يتجزأ من نسيج عاداته وتقاليده الموغلة في القدم " . وكان الكثير من المعاصرين في تلك الفترة يعتبرون أن مجالس القات في حقيقة أمرها ما هي إلا متنفس اجتماعي وثقافي وفني وسياسي تعبر عن آراءهم ، أفكارهم ، همومهم , وطموحاتهم . وقيل بعض المعاصرين أن مجالس القات أو ( مبارز ) القات كانت بمثابة تعريف لبعض الفنانين الناشئين والذين ذاع صيتهم آفاق عدن بل أن بعض الشعراء الشباب كانوا يلقون قصائدهم في تلك المجالس , واستطاع بعض أصحاب الموهبة من الشعراء الشعبيين الشباب أن يثبت وجوده , وأن ينطلق من قاعدة مجالس القات إلى آفاق رحبة وعريضة في عالم الشعر . [c1]مجالس القات وفريد الأطرش [/c]ويقول حسين سالم باصديق ، أن منع القات في عدن ، كان يعني تصفية الكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية الأصيلة التي ضربت جذورها في أعماق تاريخ ثغر اليمن عدن. وهدم ـ أيضا ـ مجالس القات التي كانت لا تعني فحسب مضغ وتعاطي القات فيها بل كان قاعدة لكثير من الإبداع والفن الذي كان ينطلق من رحابها أو بمعنى أدق وقف النشاط الثقافي والإبداعي والذي كان مصدره الرئيس مجالس القات التي كانت تمد وتزود المجتمع بالمواهب الإبداعية المختلفة . ودليل على أهمية مجالس القات أو ( مبارز ) القات . أن حضرها الموسيقار والمطرب الكبير فريد الأطرش والفرقة الفنية المصاحبة له عندما زار عدن سنة 1954م بدعوة من إسماعيل خدابخش أحد التجار الكبار في عدن ـ وقتئذ ـ وحضرها ـ أيضا ـ الفنان أحمد قاسم وغيره كثير من الفنانين المشهورين في عدن ونستخلص من ذلك أن مسألة منع القات في عدن ، كان وراءها جوانب وآثار هامة أخرى كما ذكرناها قبل قليل . وهذا ما لم تضعه السلطات البريطانية أو بالأحرى لم يضعه المندوب السامي لعدن هيكنبوثم في حسبانه عندما أوعز إلى أعضاء المجلس التشريعي العدني بتلك الفكرة أو بذلك المشروع وهو منع القات في عدن والذي كان ضربا من ضروب العبث ـ على حد الصحفية البريطانية ماور ـ .[c1]القرار ورجال القانون [/c]والحقيقة لا نعلم على وجه اليقين هل عرض المندوب السامي هيكنبوثم على رجال القانون تلك العبارة التي تقول بالحرفي الواحد : " منع القات في عدن " . وربما لم يعرضها عليهم بالمرة ، وأكبر الظن أنه إذا عرضها عليهم لكانوا نصحوه أن يعيد صياغتها مرة أخرى أن يعيد النظر في تلك العبارة القاطعة والمانعة وتكون عبارتها خفيفة أو تفتح الباب مواربا مثل منع القات في عدن في أيام معينة . وهذا ما دفع بالمعاصرين لهذا القرار ومنهم القاص حسين سالم باصديق أن يصفه بأنه كان قرارا متهورا لم يستند على المنطق والتاريخ ، والاجتماع المتمثلة في عادات وتقاليد الناس في ثغر عدن والتي هي جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع اليمني . [c1]الجاليتان الهندية والصومالية [/c] واللافت للنظر ، أن الجاليات التي كانت تعيش في عدن لم تحرك ساكنا من هذا القرار وأهمها الجالية الهندية التي انصهر الكثير منهم في المجتمع العدني ويرجع سبب ذلك أن تلك الجالية وضعت نصب أعينها ألا تتدخل في شئون السياسة وخصوصا فيما يتعلق بين عرب عدن والسلطات البريطانية , ولكن عندما قررت بريطانيا فصل مستعمرة عدن عن حكومة بومبي في سنة 1937 م ثارت ثائرتها، وأقامت الدنيا ولم تقعدها لكون ذلك القرار أو القانون يمس بمصالحهم المادية ، ـ وكذلك ـ فقدان نفوذهم المتغلغل في مختلف مفاصل المستعمرة المختلفة . ولقد تبوأ الكثير منهم مناصب رفيعة في الجهاز الإداري في مستعمرة عدن . ويرسم لنا الرحال الفرنسي سيمونان ( Simonan ) الذي زار عدن في سنة 1861 م أي بعد عشرين عاما من الاحتلال البريطاني لعدن عن الأعمال التي تزاولها الجالية الهندية في المستعمرة ، ويقول في ذلك : " وتبدو عدن محطة مريحة وجذابة لمسلمي الهند ، فينصرف كثير منهم إلى الأعمال المربحة فيها ..." . و يحدد الأعمال التي يقوم بها الهندوس المعروفة في المستعمرة بـ (( البانيان )) ، فهو يقول عنهم أنهم كانوا يعملون في النشاط التجاري . وأما غالبية الهنود المسلمون فقد كان يعملون " جنودا أو موظفين في الجيش البريطاني " . ويقول الدكتور مسعود عمشوش أن ازدياد الجالية الهندية في عدن أثار انتباه أحد الرحالة الفرنسيين في سنة 1855م ، فيقول : " فعالم الاجتماع آرثر دي غويينو ، مثلا ، بعث برسالة لأخته في 5 مايو 1855 ، كتب فيها : " في عدن شاهدنا مدينة هندية فوق أرض عربية " . وأما ما يخص الجالية الصومالية , الأغلب والأعم منها فلم تشارك عرب عدن في الاعتراض على قرار المنع على الرغم أنهم كانوا يتعاطون القات مثلهم مثل أهل عدن ، ويبدو أن عدم مشاركتهم يعود إلى أن الكثير منهم كان يخدم في إدارة الأمن وكانوا في حالات كثيرة يتصدون لأعمال الشغب إذا اندلعت في مستعمرة التاج البريطاني عدن , وكانوا يميلون إلى البريطانيين مثلهم مثل الجالية الهندية أكثر من ميلهم إلى عرب عدن .[c1]قرار المنع ولحج [/c]في الوقت الذي كان المجتمع العدني بجميع أطيافه لا حديث له إلا حول منع القات في عدن أو بمعنى آخر كان حديث الساعة قرار المنع بين الناس . والملفت للنظر أن سلطنة لحج لم تحرك ساكنا , ويبدو أنها كانت واثقة أن قرار المنع هذا لن يخرج إلى حيز الوجود وما هو إلا تهديد أجوف من قبل مندوب عدن السامي هيكنبوثم بهدف الضغط على سياسة السلطان الشاب علي عبد الكريم صاحب النزعة الوطنية . ودليل ذلك أنه عندما نفذ قرار المنع في مستعمرة عدن وأصبح قيد التنفيذ في الأول من إبريل سنة 1975 ، فوجئت لحج بقدوم أفواجا من أهل عدن ضمت الرجال والنساء إلى دار الأمير ( دار سعد ) حاليا والتي كانت ضمن أراضي سلطنة لحج . وبعد أيام قليلة من قرار المنع أخذت السلطات المحلية في لحج على عاتقها تقديم كافة الخدمات والتسهيلات ( للموالعة ) بل أن لحج عرضت على عرب عدن والمتعربين الاستثمار في أراضيها والذي سنتحدث عنها بعد قليل بالتفصيل .[c1]في الأول من إبريل[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد تمت طرح فكرة أو مشروع قرار منع القات في عدن على أعضاء المجلس التشريعي العدني في 14/ 1 / 1957 م. والحقيقة لا نعلم على وجه الدقة هل كان هناك معارضة من قبل بعض أعضاء المجلس على ذلك المشروع ؟ . فالوثائق البريطانية لم تشير إلى ذلك من قريب أو بعيد . وعلى أية حال لقد حاز قرار المنع بموافقة جميع أعضاء المجلس التشريعي وكان من حيثياته " منع حكومة عدن دخول القات إلى المستعمرة أو بيعه أو حيازته " . ولقد صدر قرار المنع في 25 مارس 1957م في الجريدة الرسمية الجازيت " على أن يطبق في الأول من إبريل عام 1957. [c1]الطريق إلى دار الأمير[/c]في الأول من رمضان 1376هـ الموافق الأول من إبريل 1957م صار دار الأمير اللحجية شعلة من النشاط والحركة . فقد تدفق إليها من عدن في مساء ذلك التاريخ أفواجا من أبنائها بل قل إن شئت أمواجا من الموالعة الذين يتعاطون القات إلى دار الأمير لشراء القات منها ومزاولة عادة التخزين الذي لا يسري قرار المنع في تلك المنطقة من سلطنة لحج . وتعلق الدكتورة دلال الحربي على تلك الصورة الغريبة والمثيرة ، فتقول : " كما نشأ وضع غريب عن القانون ، إذ أصبح الفرد يقف عند أول نقطة تفتيش على حدود عدن ، فلا يسمح له حتى يحمل القات ، فضلا عن تخزينه ، ثم يتقدم بضع خطوات ليجد نفسه حرا طليقا في تخزين الكمية التي يريدها ".[c1]القات الهرري[/c]ولقد أجمع المؤرخون المحدثون أن قرار المنع جاء لصالح سلطنة لحج حيث وجدته فرصة ثمينة وسانحة لإنعاش الحياة الاقتصادية في السلطنة من ناحية وضرب قرار المنع بمقتل من ناحية أخرى . والواقع أن سلطنة لحج لم تمنع مرور القات الوارد من اليمن والضالع عبر أراضيها " وبالتالي لم تضع أية قيود على مروره". ومن أجل إفشال مخطط السلطات البريطانية في حرمان العائدات والضرائب المالية التي كانت تجنيها السلطنة من جراء مرور القات في أرضيها إلى مستعمرة عدن . فقد سمحت على إنزال شحنات كبيرة من القات الإثيوبي المشهور باسم ( القات الهرري ) وهو يعتبر من أجواد أنواع القات والذي يتسابق إليه الكثير من الموالعة . وفي ذلك تقول دلال الحربي : " كان السلطان ( تقصد علي عبد الكريم ) مساندا لعملية الحصول عليه ، فقد سمح بإنزال شحنات من القات الإثيوبي المحمول بالقوارب من جيبوتي على ساحله ، ومن ثم نقله إلى دار الأمير وإلى أماكن أخرى في السلطنة ". [c1]تهريب القات [/c]ويقول المعاصرين من أبناء عدن حول قرار المنع أن من نتائجه أن حصلت عملية تهريب القات من لحج إلى عدن . ولقد تفنن المهربون في تهريب القات وتسريبه بوسائل شتى بالرغم من الرقابة الصارمة والحازمة من السلطات البريطانية في مراقبة دخول القات إلى مستعمرة عدن غير أنه كان يدخل المستعمرة تحت أنف السلطات البريطانية ، ويباع بأسعار مرتفعة. وبدلا أن يكون قرار المنع ضربة اقتصادية على سلطنة لحج وفي المقام الأول خنق السلطان علي عبد الكريم اقتصاديا ، إذ بالسلطان الشاب يقلب المائدة على السلطات البريطانية أو بالأحرى على رأس المندوب السامي هيكنبوثم , وتقول دلال الحربي : " وترتب على هذا العمل أن أصبحت دار الأمير مختلى ضخما لتناول ومضغ القات لم يستطيع الذهاب إليها من مواطني عدن , وقد عد البريطانيون تصرف السلطان علي إساءة إليهم وإلحاق أذى بالمستعمرة ، إضافة أنه جعل قانون منع القات أجوف بلا معنى " . وحول ظاهرة تهريب القات من لحج إلى داخل عدن ، تقول : " وتفشت ظاهرة تهريب القات بوسائل عدة من دار الأمير إلى عدن ، بالرغم من إجراءات التفتيش الدقيقة التي تقوم بها سلطات عدن " ـ كما مر بنا سابقا ـ . ويتعجب المرء من النقد الشديد التي وجهته السلطات البريطانية في عدن إلى السلطان الشاب علي عبد الكريم معتبرة تصرفاته إساءة للمستعمرة . ويبدو أنها تناست بأنها هي التي بدأت المعركة الاقتصادية ضده , وكان من البديهي أن يدافع السلطان الشاب علي عبد الكريم عن هيبته ، وهيبة سلطنته . [c1]القات سيعود ثانية[/c]وردا على سؤال من أحدى الصحف البريطانية حول قرار المنع أجاب السلطان علي عبد الكريم : " بأنه يجني أموالا طائلة من مرور القات من أراضيه يستفاد منها في دعم المشروعات التطويرية للسلطنة ، كما أنه لا يرى أنه يملك حقا في أن ينتزع من الناس أمرا اعتادوا عليه ، وأشار أنه بالرغم من قناعته بالأضرار الصحية السيئة للقات ، إلا أنه أكد على أن القات سيعود ثانية إلى عدن " . ويعقب حسين سالم باصديق من بعض الذي قدح بالقات وأيد قرار المنع ، وكتب المقالات الطويلة ضد القات وأضراره ، كان من أوائل الوافدين إلى دار الأمير ليخزن أجود القات اليمني المثاني ،المضوي ، اليافعي ، و الحالمي مثله مثل الموالعة . ويتذكر حسين سالم باصديق أن بعض الشعراء الشعبيين في مجالس القات في دار الأمير كان يرفع عقيرته يمدح القات ويقدح قرار منعه ، فيقول : " زمردا يقطف الأصحاب منه قاتا يصفو به العيش أحيانا وأوقاتـا يا عاذلي عن حصول القات مت كمدا لا نترك القات أحياءً وأمواتــا [c1]نتائجه العكسية [/c]والحقيقة أن المندوب السامي هيكنبوثم والسلطات البريطانية لم تدر بخلدها ، بأن قرار المنع ستكون له نتائج عكسية عما توقعوها وهي خنق وحصار السلطان علي عبد الكريم أو بمعنى أدق خلق أزمة اقتصادية في سلطنة لحج وإزاء ذلك فإن أهالي لحج سيثرون على سلطانهم أو سيحدث اضطراب في اقتصاد السلطنة اللحجية . فإذا بقرار المنع يتحول لصالح السلطان الشاب علي عبد الكريم المشاغب الذي لم ينصاع إلى أوامر حكومة صاحبة الجلالة بريطانيا . وتصور الباحثة السعودية الدكتورة دلال الحربي تصويرا حيا عما حدث من نتائج قرار المنع على دار الأمير اللحجية . بأنها صارت تموج بالحركة والنشاط الاقتصادي الكبيرين من جراء بيع القات فيها بأسعار مرتفعة , وأوضحت كيف بذلت السلطات المحلية وإدارة الأمن اللحجية جهودا كبيرة من أجل راحة وخدمة ( الموالعة ) أو الذين يتعاطون القات . بل وصل الأمر أن أعلنت حكومة لحج بأنها ستسمح لأهل عدن القيام بالاستثمار على أراضيها . وفي ذلك تقول دلال الحربي : " ومن الواضح أن السلطان علي استغل قانون منع القات في عدن لصالح سلطنته اقتصاديا وسياسيا ــــ بالرغم من أنه وسيلة غير مشروعة ـ إذ عمد بائعو القات إلى تسويقه بأسعار أعلى مما كانت عليه سابقا ، وتحولت دار الأمير إلى شبه سوق ليلية كبرى لبيعه " . وتمضي في حديثها ، فتقول : " حتى أنه غدا من المألوف رؤية أفواج من المركبات وحشود الرجال والنساء تمتد من دار الأمير إلى قلب الشيخ عثمان ، كما ارتفعت أجور مقاعد الجلوس فيها بفضل الموالعة . وأمام هذا التحول الذي حدث في دار الأمير اهتمت إدارة الأمن في سلطنة لحج بزيادة عدد الجنود فيها لحفظ الأمن والنظام وعمل كل جهدهم من أجل راحة المخزنين " . وتسترسل : " وحددت حكومة لحج سعر القات , وجميع المشروبات التي تباع فيها ، وحددت أجور مقاعد الجلوس ، ووضعت التسهيلات اللازمة لبائعي القات وللمستهلكين ، فأنشأت سوقا للقات ، ورخصت بفتح أماكن للبيع والشراء ، إضافة إلى أنها استغلت تردد أفواج القادمين إلى دار الأمير لتسويق بينهم منتجات السلطنة الأخرى من الخضروات والفواكه ، وفي إطار اهتمامها بدار الأمير عينت لها محافظ , وأنشئت لجنة للقيام بشئون البلدية ، كما أصدرت ميزانية خاصة بها ، وأعلنت عن بيع قطع معينة في مخطط دار الأمير الجديد يسمح للعدنيين العرب منهم والمتعربين بالشراء أو امتلاك عقارات فيها ". [c1]تداعيات أخرى[/c] والحقيقة أن قرار المنع كان له تداعيات أخرى غير التداعيات الاقتصادية التي ذكرناها سابقا وهي تداعيات سياسية أو بمعنى آخر أن قرار المنع هذا ألقت بظله على السياسة في سلطنة لحج حيث استغله حزب رابطة الجنوب العربي استغلال ذكيا . ففي دار الأمير كان حزب الرابطة يقيم الفعاليات السياسية المتمثلة بالمهرجان والاحتفالات الخطابية التي توضح سياسة الحزب الوطنية إزاء السياسة البريطانية الرامية إلى ترسيخ الاحتلال في تربة الجنوب العربي . وفي الثاني من مايو 1975م ، أقيم مهرجان خطابي كبير ، وفي ذلك المهرجان توافد إليه عدد كبير من أبناء عدن . ولقد هاجم رئيس الحزب بقوة السياسية البريطانية وأن سياسته في نفي أعضائه ستزيد الحزب عزيمة وإصرار في تعريت أساليبه السياسية . ولأول مرة يعلن الحزب في دار الأمير مطالبته الصريحة للاستقلال عن التاج البريطاني . وفي ذلك تقول دلال الحربي : " وهو الأمر الذي لم تجاهر به الرابطة من قبل بشكل صريح مما يجعل منه البداية الفعلية لإعلان الرابطة عدائها للاستعمار البريطاني ، وتحديها لوجوده " . [c1]نذر العاصفة[/c] وفي واقع ألأمر ، أن السلطان الشاب علي عبد الكريم الذي كان يتقد جذوة من الحماس الوطني والمعجب بالرئيس المصري جمال عبد الناصر ، وثورته ، وأشد حكام المحمية الغربية المعارضين للمشروع الفيدرالي . قد خرج من موقعة أو معركة القات منتصرا على السير هيكنبوثم ــ إن صح ذلك التعبير ـــ . ولكن كان على السلطان علي أن يكون حذرا من تداعيات انتصاره على حاكم عدن في موقعة القات وكان عليه أي السلطان ( علي ) أن يدرك أن السلطات البريطانية بعد أن فشلت فشلها الذريع في مسالة قرار منع القات في عدن بهدف حصاره اقتصاديا بأنها لم و لن تتركه يهنأ في حكم سلطنة لحج . وأن نذر العاصفة ستهب بقوة لاقتلاعه من كرسيها . ولسنا نبالغ إذا قلنا أن معركة القات والتي فشلت بها السلطات البريطانية ــ كما مر بنا سابقا ــ كانت بالنسبة لها مسالة غاية في الخطورة حيث اهتزت هيبتها بين حكام إمارات الجنوب العربي , وظهرت عاجزة أمام سلطان لحج . كل تلك العوامل والأسباب التي سقناها ، كان على السلطان علي عبد الكريم أن يعيد النظر في أسلوب التعامل السياسي مع حاكم عدن السير هيكنبوثم . ولكن بدلا من ذلك صعد الموقف بينه وبين بريطانيا . عندما أتاح لحزب الرابطة العمل في داخل سلطنته بحرية أو بمعنى كانت لحج تمثل القاعدة الذي ينطلق منها رئيس الحزب محمد الجفري في شن هجومه العنيف ضد السياسة البريطانية التي تعمل على ترسيخ نفوذها السياسي والعسكري في الجنوب العربي وذلك كله كان أمام سمع وبصر سلطان لحج . و طلبت حكومة عدن منه طرد رئيس حزب الرابطة ولكنه رفض ذلك الطلب . ولكنه وعدها بأنه سيعمل على الحد من نشاطه السياسي في السلطنة ، ولكن الحقيقة أن السلطان علي كان يتغاضى عن نشاط حزب الرابطة ورئيسه . وتقول دلال الحربي في ذلك : " غير أن الحقيقة الثابتة التي كانت ماثلة أمام البريطانيين أن السلطان علي كان يتغاضى عن نشاط الجفري، وأنه مستمر في هذا التغاضي " . [c1]عزل السلطان [/c] وعلى أية حال ، وجهت حكومة صاحبة الجلالة بريطانيا إلى السلطان علي عبد الكريم في العاشر من يوليو 1958م مذكرة تقول فيها : " بمنعه من العودة إلى لحج أو إلى مستعمرة عدن أو إلى أي جزء من محمية عدن " . وفي نفس هذا اليوم أعلن لينوكس يويد وزير المستعمرات في مجلس العموم ، أن الحكومة البريطانية سحبت الاعتراف بالسلطان علي عبد الكريم كسلطان على لحج . وفي ديسمبر سنة 1958م ، جلس على كرسي السلطنة اللحجية السلطان فضل بن علي, والذي كان آخر سلاطين العبادلة الذين حكموا لحج زهاء أكثر من مائتي عام، وبذلك تطوى آخر صفحة من صفحات العلاقة الأنجلو ـــ لحجية . [c1]الهوامــــــــــش : [/c]الدكتورة دلال بنت مخلد الحربي ؛ علاقة سلطنة لحج ببريطانيا ( 1337ـ 1378هـ / 1918ـ 1959م ) ، الطبعة الأولى 1417/ 1997م ، كلية البنات ـ جامعة الرياض ـ المملكة العربية السعودية. حسين سالم باصديق ؛ في التراث الشعبي اليمني ، الطبعة الأولى 1414 هـ / 1993م ، مركز الدراسات والبحوث اليمني ـ صنعاءـ .الدكتور مسعود عمشوش ؛ في كتابات الرحالة الفرنسيين ، سنة النشر سنة 2003م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ، الجمهورية اليمنية .شفيقة عبد الله العراسي ؛ السياسة البريطاتنية في مستعمرة عدن ومحمياتها 1937ـ 1945 ، سنة النشر 2004 ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ، الجمهورية اليمنية . حسن صالح شهاب ؛ العبادل سلاطين لحج وعدن ( 1145 ـ1380هـ /1732 ـ 1959م ) ، مركز الشرعبي للطباعة والنشر والتوزيع ـ صنعاءـ .