علي حد علمي كان كاتب هذه السطور هو أول من تنبه إلى أن الموت له ثقافة تحتضنه وتحض عليه وذلك في عام 1994 في مقال في مجلة كاريكاتير. غير أنها في ذلك الوقت كانت ثقافة وليدة تقترب من عقول الناس خفية وعلى استحياء، وبعد مرور هذه السنوات أستطيع أن أقول باطمئنان إن ثقافة الموت العدمية هي الثقافة الغالبة في الشارع العربي وحواريه كما في قراه ونجوعه، وفي كل لحظة هي تستولي على المزيد مما تبقى من مواقع حرصت حتى الآن علي إشاعة ثقافة الحياة، تلك المواقع التي يحميها عدد قليل من البشر الحالمين واليائسين في الوقت ذاته. هي ثقافة عاجزة عن التعامل مع الواقع كما هو عليه وبالتالي عاجزة عن إصلاحه وذلك بتغييره بهدف الوصول والحصول علي واقع أفضل قابل للنمو والازدهار. العجز عن التعامل مع هذا الواقع يجعلها تلجأ للهروب منه أو الالتفاف حوله إلي أن تصل الي النقطة التي يتحول فيها هذا الواقع ــ واجهة الحياة وعنوانها ومقر إقامتها ــ إلي عبء ثقيل لا يمكن التخفف منه إلا بالموت. ولثقافة الموت شهادات ودرجات ومستويات في التحصيل تماما كما في التعليم الأكاديمي، فهناك مثقفو الموت بامتياز مع مرتبة الهلاك الأولي، وهناك من ينجح بدرجة جيد جدا أو جيد فقط أو مقبول كما أن هناك الأستاذ والمعيد والمدرس. هناك من يذهب إلي مكان ما ليقتل الآخرين ويقتله الآخرون، وهناك من الطلاب من سينظر له بإعجاب وحسد مكتفيا بالحصول علي شهادة التمني.. أي تمني موت الآخرين، ويا حبذا لو كان موتهم مصحوبا بدرجة عليا من الألم، لذلك ستلاحظ أن كل جثث القتلى التي يتم العثور عليها في بغداد مقطوعة الرأس، تعرضت لتعذيب شديد قبل أن تموت. هذه هي أعلي درجات ثقافة الموت. علي ضوء ذلك سأحكي لكم قصة واحدة من تلامذة مدرسة ثقافة الموت الابتدائية وهي فتاة ليس مهما أنها منقبة، المهم أنها تشاهد أحلاما تقوم بتفسيرها بنفسها واصلة إلي معني محدد وهو أن فلان الفلاني الفنان المعروف سيموت بعد شهر أو شهرين. هذه هي بالضبط درجة التخصص في ثقافة الموت، حيث لا تري سوي موت الآخرين في المنام، وبرغبة قوية في فعل الخير، تبحث عن عنوان ذلك الفنان وتذهب إليه لتبلغه هذه البشري وهي أنه سيموت بعد شهرين وأن عليه أن ينتهز هذه الفرصة لكي يتوب عما ارتكبه من آثام ــ حاتكون إيه غير الفن؟ ــ وأن يتفرغ للعبادة استعدادا لمقابلة وجه ربه الكريم. أصل الحكاية كما شرحت لنا صحافتنا أنها قبل أن تنام تصلي صلاة استخارة لتعرف منها في أحلامها من سيموت، ولما كان ــ الجعان يحلم بسوق العيش،، ولما كان الحلم في أبسط تعريفاته هو ــ تحقيق رغبة،، لذلك تقوم أحلامها بتحقيق رغبتها. هي تحيا نهارا مع ثقافة الموت العدمية وفي الليل تستجمع تلك الرغبة وتشحن بها وعيها بأمل أن يستجيب لها العقل الباطن صانع الأحلام.. لابد أنها تبتهل إلي الله بصدق وحرارة.. يارب توريني في المنام من سيموت قريبا من الفنانين. من الطريف إنها عندما حكت تفاصيل الحلم الذي فسرته بأن مطربا مشهورا سيموت بعد شهرين، نكتشف أن مشاهد الحلم لا يظهر فيها المطرب، كما لا يوجد به ما يشير للموت من بعيد أو قريب، لقد رأت شابا مرتديا قميصا وبنطلونا (يتقدم) منها فقالت له: هل أنت عمر بن الخطاب؟ هذه الفتاة صادقة مع نفسها تمام الصدق غير أنها للأسف لا تعرف شيئا عن آليات العقل الباطن في إخراج الحلم، لا هي ولا هؤلاء الذين كتبوا لنا حكايتها، لقد كان العقل الباطن صادقا تماما مع رغباته هو وليس مع رغباتها الواعية التي امتلأت بثقافة الموت،هو يعرف ماذا تريد في أعمق أعماقها فأعطاها ما تريد، الحلم هنا يحقق رغبتها في أن(يتقدم) لها شاب لا يرتدي جلبابا بل شاب عصري بشرط أن يكون عادلا وصارما معها،لذلك اختار عقلها الباطن الرمز الوحيد الواضح في الثقافة الشعبية وفي التراث العربي والإسلامي للعدل والصرامة، هذا هو تفسير سؤالها له في الحلم الذي يبدو غريبا في البداية: هل أنت عمر بن الخطاب..؟ وبذلك يكون محتوي الحلم هو: نعم.. يسعدني أن تتقدم لي.. ولكن هل أنت شخص عادل وحازم؟ برغبتها الواعية هي تريد أن تري في أحلامها من سيموت من الفنانين، غير أن عقلها الباطن كانت له حسابات أخري ورغبات أخري، هو يعرف جيدا أن الفتاة تعاني الحرمان لذلك جاء لها بعريس شاب. ماذا تريد هذه الفتاة من الفنانين؟ من يتألموا.. أن تتألم هذا هو ما يريده لك المتطرف المثقف بثقافة الموت. السؤال هو: لماذا اختارت الفنانين مع أن الأقربين هم الأولي بالمعروف.. لماذا لم تحلم أحلام الموت هذه لخالتها وعمتها وصديقاتها.؟ لماذا لا تحلم بموت جيرانها؟ هناك سببان، الأول هو أنها لن تكسب شيئا علي المستوي الإعلامي وهو مطلب عند المتطرف لو تعلمون عزيز ابتداء من إذاعة فيلم تسجيلي قصير تقطع فيه رؤوس الناس.. إلي نشر عدة صفحات عن تحجب فلانة. أريدك أن تتخيلها وهي ذاهبة إلي جار لهم وتقول له:عم عبده.. حضرتك حاتموت بعد شهرين. لا أحد من جماهير القراء سيعلم بذلك، لن يهتم أحد في ما كينة الإعلام بهذه الواقعة بالإضافة بالطبع إلي أنها ليست علي ثقة من ردود الفعل المحتملة عند عم عبده.. من الممكن أن تصرخ زوجته في وجهها : خبرك اسود.. هو احنا ناقصينك أنت كمان؟ ومن الممكن أن يكون الأسطي عبده رجلا خفيف الدم فيقابلها مرحبا ويقول لها: فرحتيني يا شيخة.. يعني الواحد حا يستريح بعد شهرين؟ الحمد لله.. وحضرتك ناوية تموتي امتي..؟.. اتفضلي.. تشربي شاي والا أجيب لك سم هاري ونطلع احنا الاتنين علي هناك دلوقت؟ ما الفنان فمن المؤكد أنه سيكون مهذبا في سلوكه وحذرا في التعامل معها لكي لا يقع في مشكلة بسببها. الأصل في هذه الحكاية أنها بوصفها تلميذة في مدرسة ثقافة الموت الابتدائية، أرادت أن توجه ضربتها للفن. مدرسة ثقافة الموت تري بحق أن العدو الحقيقي لها هو الفن والفنانين بما يقدمونه للناس من بهجة وفرحة، وهما بالحتم يشكلان خطرا حقيقيا علي مناهج مدرسة العدم. ازدهار الفن والإبداع بكل أنواعه يشكل بالنسبة لهؤلاء خطرا داهما.. والخوف منهم ومحاولة إرضائهم بتقليم أظافر الفن والنيل من جمالياته وكتم أنفاسه يحقق لهم أهدافهم ، في هذه الحالة نكون نحن أيضا قد قدمنا أوراق اعتمادنا بغير وعي للالتحاق بمدرسة ثقافة الموت.________* كاتب مسرحي مصري
ثقافة الموت
أخبار متعلقة