جمعت الحسن من طين الأرض وقسوة الأيام
القاهرة / وكالات:من مسجد الصباح المجاور لبيتها في ضاحية الهرم في الجيزة، شيعت أمس الفنانة القديرة هدى سلطان ليشهد الجمهور العربي غروب شمس الأغنية الدافئة بعد 81 عاماً، أثرت خلالها الساحة الفنية بأرفع الأعمال في الغناء والسينما والمسرح والتلفزيون.منذ أكثر من نصف قرن، سطع نجم بهيجة عبدالعال الحو التي سُميت في ما بعد هدى سلطان في سماء الفن. واستطاعت بفضل أدائها الناعم وقسمات وجهها الريفي، أن تؤجج المشاعر وتلهب القلوب العطشى للرومانسية الناعمة.تكمن أسرار عبقرية بهيجة الحو التي ولدت عام 1925 في كونها تجمع نواقض كثيرة فهي الحبيبة المدللة الناعمة والأنثى اللعوب والمرأة الحديد.برزت سلطان في أدوار عدة ومتنوعة في السينما والدراما التلفزيونية، وبرعت في دور البنت الدلوعة صاحبة العيون الجريئة، كما لمعت كممثلة ومطربة، لتصبح أحد أكثر الأسماء المصرية والعربية شهرة.يضمّ رصيدها الفني أكثر من 150 أغنية و61 فيلماً، وأولى هذه الأغنيات "حبيبي ما فيش مثاله" (لحن أحمد عبدالقادر) وآخرها مشاركتها في أوبريت "القدس حترجع لنا" (كلمات مدحت العدل وألحان رياض الهمشري). كما غنت الحب في "أحلامك أحلامي" و"'حياة عينيك" ورائعتها "السد العالي«.أما أدوارها السينمائيـــة فكانـــت متنوعة أداءً وتمثيلاً منها »أبو الدهب« مع فريد شوقي ومحمود المليجي، »رصيف نمرة خمسة« مع زكي رستم وفريد شوقي، »امرأة على الطريق« مع رشدي أباظة وشكري سرحان، »الغجرية« مع شكري سرحان وعبد السلام النابلسي و "امرأة آيلة للسقوط"'' وآخر أفلامها "من نظرة عين" (عام 2004) إضافة إلى العديد من الأعمال الدرامية التلفزيونية والمسرحية مثل "عفريت الست" و "وداد الغازية" و "الملاك الأزرق" و "باي باي" و "آه من حلاوتها والوتد".[c1]نقطة التحول[/c]نقطة التحول في مسيرة هدى سلطان الفنية بدأت مع عز الدين ذو الفقار الذي لعب دوراً حاسماً وشكّل تحولاً دراماتيكياً في أدائها عبر فيلم "امرأة على الطريق" الذي اكتنف خصوصية شديدة على مستوى الأداء الذي كان بعيداً تماماً من الأدوار النمطية في تقديم الإغراء. وبدا ذلك واضحاً في شخصية "لواحظ" التي جسّدت التوليفة الخاصة في أداء هدى سلطان، وفي تفاصيل الحركة والسكون والوقوف في لحظات التأمل.المحطات الأخرى في مسيرة سيدة الغناء والأداء متنوعة، ولا بد هنا من التوقف عند محطة المخرج نيازي مصطفى الذي أدرك مقومات المرأة العفوية التي تملك الروح الشعبية. ومعه قدّمت سلطان أدواراً متميزة تعتبر علامات في تاريخ الشريط السينمائي مثل "رصيف نمرة خمسة«، و "فتوات الحسينية" و "تاكسي الغرام". كما قدمت تنويعات شديدة الثراء على مستوى الدهشة في الأداء والتمثيل، عبر كوكبة سيناريوات شاركت فيها فريد شوقي مثل "حكم القوي" و "تاجر الفضائح" و "زوجة من الشارع".ويعد لقاؤها مع صلاح أبو سيف في محطة فنية أخرى نقلة نوعية في أدوار تتماشى مع بنت البلد التي تقف الى جوار زوجها مقدرة ظروفه وتضحي من أجله مثلما بدت في "الأسطي حسن" و "توحيدة". إلا أن العلامة البارزة في حياة هدى سلطان السينمائية كانت فيلمها "شيء في صدري" للمخرج الراحل كمال الشيخ، نظراً إلى أنّه من روائع كلاسيكيات السينما المصرية.و"في عودة الابن الضال"، رائعة يوسف شاهين، تدهشك تلك الشخصية المركبة التي تلم بالأبعاد النفسية والاجتماعية مختلطة بالسياسية والاقتصادية، وهي عوامل أفضت في الفيلم إلى التفكك الأسري اثر أنماط الفساد الذي أصاب أسرة مصرية ذات جذور إقطاعية. وهنا ظهرت هدى في شخصية الأم التي تمثل العمود الفقري الذي يحمي تلك الأسرة مع الممثل محمود المليجي، ليبقى الفيلم في النهاية لوحة فنية مميزة في ذاكرة السينما العربية.[c1]سنوات النضج[/c]في التسعينات من القرن الماضي، بدأت هدى سلطان المرحلة الأكثر نضجاً في حياتها الفنية من خلال الدراما التلفزيونيـــة "أرابيسك" في شخصية أم حسن وزوجة أبو بشر في "زيزينيا"، وفاطمة تعلبة في مسلسل "الوتد"، وأم رحيم في "الليل وآخره".ربما كانت توليفة التراجيديا وحرارة التعبير الفائق الجودة، والحضور البهي أبرز مميزات شخصيتها. كانت تعلو فوق كل فعل غاضب، فأمضت رحلتها القاسية في الحياة كصبية عاشقة لفنها. حتى عندما وصلت إلى أعلى درجات النجومية، ظلت الأم الحنون والأخت الرؤوم (شقيقة الفنان الكبير محمد فوزي)، والزوجة المحبة (تزوجت أربع مرات من محمد نجيب، وفؤاد الجزايرلي وفؤاد الأطرش، شقيق الفنان فريد الأطرش، وفريد شوقي).كانت تمنح الحب والعطاء النابعين من جوهرها الريفي، وخلفيتها الملتزمة التي تعكس طينة غرب الدلتا في مصر وترابها وأشجارها.بعيداً من السينما، يبقى مشهد أثيري قد لا يتكرر، لا في الواقع ولا في السينما، هو ذلك المشهد الذي افترقت فيه سلطان عن "حب حياتها" فريد شوقي، فانهار كجبل عملاق من فرط البكاء، بعدما أحسّ بحجم خسارته، بعد 15 عاماً من العيش معاً، في علاقة حب استثنائية أثمرت ابنتين هما مها وناهد.