محمد زكرياعُمارة الشاعر اليمني عاش في العصور الوسطى ، وتحديداً في عهد حكم آل زريع في عدن ( 532ـــ 569هـ / 1137 ـــ 1173م ) ، وفي عهد الدولة الفاطمية في مصر وعلى وجه التحديد في حكم الخليفتين الفائز ، والعاضد آخر خلفاء الفاطميين في مصر وبتعبير آخر عندما كانت شمس الخلافة الفاطمية تجنح إلى المغيب . وبزوغ شمس الدولة الأيوبية ومؤسسها صلاح الدين الأيوبي المتوفى سنة ( 589هـ / 1193م ) . لقد شاهد عُمارة اليمني الذي كان في يوم من الأيام في قمة هرم المجد والنفوذ في عهد الفاطميين ، كيف تبدلت الأحوال ، وتغيرت الأوضاع السياسية ، وصارت تلك الخلافة الفاطمية التي حكمت مصر وكثير من بلدان العالم العربي والإسلامي أثراً بعد عين ، فلم يتخلى عنها ، فكانت قصائده تشيد بمناقبها ، وتهاجم أعداءها ومن جراء ذلك دفع حياته ثمنا لها . والحقيقة أنّ عمارة اليمني مازالت شخصيته حتى هذه اللحظة تثير الكثير من التساؤل والجدل بين المؤرخين المحدثين ، والباحثين الحاليين , وأيضاً بين أوساط المثقفين وهو هل كان عمارة اليمني حقيقة فاطمي ( الهوى ) ؟ . أما كان الوصول إلى الخلفاء الفاطميين كانوا بمثابة قنطرة إلى المجد والرقي والنفوذ والجاه و الصولجان ؟ . [c1]" فضل الموت عن الغدر "[/c]والحقيقة أن بعض الروايات تذكر عمارة الشاعر اليمني بأنه فضل الموت عن الغدر ، وتمسك بأستار الوفاء ومن أجل هذا دفع حياته ثمن لها ، وتؤكد تلك الروايات بأن عمارة اليمني كان إنساناً وفياً ، ومخلصاً للدولة الفاطمية حتى بعد أن توارت عن مسرح الحياة السياسية في العالم العربي و الإسلامي فقصائده كلها ترثي وتندب حكم الخلافة الفاطمية الزاهية وعصرها الذهبي بعد أن ذهب ريحها ، في أحدى قصائده ، يزرف دموع حارة على مجد تلك الخلافة التي مالت إلى الغروب ، فيعاتب الزمن ، منشداُ :رميت يا دهرَ كفَ المجد بالشلل وجيده بعد حسن الحُلي بالعطل[c1]الصعود إلى القمة[/c]وبعض الروايات تؤكد أن عُمارة اليمني ، كان يعمل لحسابه الخاص وبتعبير آخر كان يستخدم ذكائه ، وعلمه الواسع ، والغزير بهدف الصعود إلى قمة المجد والثراء والجاه من خلال التقرب إلى الحكام والأمراء مثلما فعل مع حكام آل زريع الذين حكموا عدن قرابة أكثر من 30عاماً ( 532 ـــ 569هـ / 1137 ــ 1173م) ، وعلى وجه التحديد في عهد الداعي محمد بن سبأ الزريعي فقد وجد عُمار اليمني نفسه في زبيد تلك المدينة المليئة بالفقهاء ، والعلماء ، والأدباء الكبار ، وبسبب ذلك لن يكون له مكانة مرموقة بينهم ، ولن يستطيع أيضاً أن يحقق أحلام طموحاته الواسعة . ففكر وقرر أن يرحل من زبيد إلى عدن الذي كان يحكمها آل زريع ــ كما أسلفنا سابقاً ـــ و يصف . العلامة القاضي محمد بن علي الأكوع آل زريع بالكرم والسخاء الكبيرين ، قائلاً : " هم أسخى من الغيث إذا همى والبحر إذا طمى يبارون الرياح كرماً وسخاء ، وكانت أخبارهم تفد إلى زبيد مع التجار والمهاجرين الأمر الذي دعا عمارة إلى زيارتها والانخراط في زمرة شعرائها " . [c1]الاتصال بملوك آل زريع[/c]ويؤكد العلامة محمد الأكوع أن الذي دفع عمارة اليمني الرحيل من زبيد , وإلقاء عصا الترحال في عدن في كنف حكام آل زريع هو طموحه العريض إلى المجد والسؤدد وأنه سيكون مغموراً في زبيد ــ كما قلنا سابقاً ــ ، فيقول : " فهي ( يقصد زبيد ) مليئة بالفقهاء ، والعلماء ، والأدباء الذين يشغلون مناصب . ورأى في نفسه أنّ لا مكان له معهم ، كما أن طول المكث بطبيعة الحال يولد السآمة والملل ، وأحس بفراغ ممل بينما نفسه تنازعه إلى طلب العُلا والخروج من التفكير الذي يسود في ناظره كل شيء فلم يجد سبيلاً لإشباع رغبته وانصرافها عن التفكير سوى الاشتغال بالتجارة في ظاهر الأمر . وفي قرارة نفسه الاتصال بملوك عدن لعله يجد سلوته وما تصبو إليه نفسه " . آل زريعوفي واقع الأمر ، أنه من خلال الحديث عن شخصية عمارة اليمني ، فإننا نتعرف على ملامح الحياة الثقافية والاجتماعية التي كانت سائدة في تلك الفترة التاريخية وعلى وجه التحديد في عهد آل زريع في عدن . وكيف كانت عدن ثغر اليمن تحت حكمهم تموج بالتجارة النشيطة والحياة الاقتصادية المزدهرة ، وأتساع العمران ؟ ,وأنها كانت تتفوق على زبيد . وهذا ما أكده مؤرخنا العلامة القاضي الأكوع ، فيقول : عدن هي الثغر الطبيعي لليمن الخضراء وهمزة الوصل بين الشرق والغرب التي يلتقي فيها الحادي والملاح مزدهرة الحضارة مشتبكة العمران وتفوق زبيد بخلال وسمات كثيرة ، وكانت لعهدها تحت نفوذ ملوك آل زريع . [c1]عدن وثراءها العريض[/c]والحقيقة أن ميناء عدن شهد ازدهاراً واسعاً في عهد حكم آل زريع الذين كانوا عمالاً للدولة الصليحية وانسلخوا منها في نهاية حكم السيدة بنت أحمد الصليحي المتوفاة ( 532هـ / 1137م ) . وهذا ما أكده الدكتور محمد الشمري بأن عدن كانت تنعم بالرخاء التجاري والاقتصادي ، وشهدت توسعاً عمرانيا واسعاً من جراء تحول التجار من جزيرة كبش ـــ أو قيس ـــ ( الواقعة على بحر عُمان ) ، قائلاً : " ازدهرت عدن تجارياً بعد تدهور ميناء جزيرة كبش ، وتحوُل التجار إلى ميناء عدن ، وكان من مظاهر ذلك الازدهار تطور عدن وثراء أهلها وحكامها ، وكانت عدن قبل ذلك ذات نشاط تجاري متميز بدليل أنّ أمراءها ، كانوا يدفعون سنوياً مائة ألف دينار للسيدة الحرة الصليحية ، ثم استقلوا عنها وامتنعوا عن دفع تلك الأموال ، فزاد ذلك من ثرائهم وعجل في تطور عدن العمراني والاجتماعي " . [c1]عُمارة الشاعر[/c]وكما أسلفنا ، أن سيرة عمارة اليمني تعطينا صورة واضحة عن الحياة الاجتماعية في عدن تحت حكم آل زريع والذي منها الحياة الاقتصادية التي ذكرناها بإسهاب قبل قليل أما يخص الحياة الثقافية ، فقد كانت أمراء ، وحكام آل زريع يشجعون الشعر الذي يعتبرونه بوق دعاية لهم في تثبيت أقدامهم في حكم عدن ولذلك كانوا يبذلون العطايا بسخاء كبير إلى الشعراء . وهذا ما حدث مع عمارة اليمني الذي نفحه الداعي محمد بن سبأ الزريعي مبلغاً كبيراً من المال بسبب قصيدة التي تمدحه والذي قيل أن شاعر آل زريع ( أبو بكر بن محمد ألعيدي ) وهو من الشعراء المجيدين هو الذي كتبها وأنشدها على لسان عمارة اليمني , وقيل أيضاً هو الذي شجع ووجه عمارة إلى الإنكباب على قراءة الأدب والشعر أو بتعبير آخر أن يخوض في بحر الأدب والشعر لكونه صار معروفاً في عدن بــ ( عُمارة الشاعر ) . وهذا ما أكده محمد الأكوع ، عندما قال الشاعر أبي بكر العيدي لعُمارة اليمني : " إنك قد وسمت عند القوم بسمة شاعر فطالع كتب الأدب ، ولا تجمد على الفقه ، ومن ذلك الحين لقب (( عمارة )) ، (( الشاعر )) . والحقيقة أن الشعر فتح لعمارة اليمني أبواب واسعة من الشهرة والجاه ، وصار من المقربين إلى أمراء وحكام آل زريع , ، وفي هذا الصدد ، يقول محمد علي الأكوع : " وكان ذلك سبب تعلمه له واشتغاله بالشعر وصحبة الملوك من ذلك الوقت فلم يزل مصاحباً لملوك آل زريع خاصة ، والتحمت بهم الصلة الأكيدة حتى ارتفعت فيما بينهم الحشمة وحتى أنه لا يشهر عنه قول الشعر في غيرهم من ملوك اليمن " . أين تراث آل زريع الثقافي ؟والغريب في الأمر ، أن شعر عمارة اليمني الغزير الذي أنشده في ملوك آل زريع في عدن ، لم يعثر عليه أو على قصيدة من قصائده أو مقطوعة من مقاطعه في مدح حكام آل زريع , وفي هذا ، يقول محمد الأكوع : " ولكن للأسف البالغ أنه لم يحفظ لنا من شعره الذي قاله باليمن شيء ( يقصد عدن ) ولم نظفر حتى على قصيدة أو مقطوعة قالها في آل زريع أو في شيء آخر ". ومن المحتمل أن القصائد التي كانت تمدح آل زريع قد حرقت أو دفنت تحت رمال النسيان في حكم الأيوبيين لليمن سنة( 569هـ / 1173م ) وبتعبير آخر أن تراث آل زريع الثقافي قد طمس على يد الأيوبيين الذين كانوا يعملون جاهداً على محو واستئصال آثار ونفوذ الفاطميين سواء في مصر أو في اليمن الذين كانوا امتداداً لنفوذهم المذهبي والسياسي في عهد حكم الدولة الصليحية لليمن الذي أقامها علي بن محمد الصليحي ( 439 ــ 532هـ / 1045 ـــ 1138م ) " فأعلن الخطبة في اليمن باسم الخليفة المستنصر بالله الفاطمي ، وأرسل له الأموال والهدايا " . والحقيقة تلك دعوة للمؤرخين والباحثين ، والمهتمين بتراث الحياة الثقافية والفكرية في عصور اليمن الوسطى إلى البحث والتنقيب عنه بهدف الخروج بمعلومات قيمة تغني وتضيف إلى تاريخ اليمن الاجتماعي , وكما هو معروف أن ملامح وجه التاريخ الاجتماعي يتكون من الاقتصاد ، والثقافة ، والفكر ، والحضارة . [c1]فاطمي (( الهوى ))[/c]لقد ذكر المؤرخ العلامة محمد القاضي أن العلاقة بين عمارة الشاعر اليمني وأمراء وحكام آل زريع توثقت بصورة كبيرة " فلم يزل مصاحباً لملوك آل زريع خاصة ، والتحمت بهم الصلة الأكيدة حتى ارتفعت بينهم الحشمة " . ومن المحتمل أن يكون عمارة الشاعر اليمني ، قد أطلع على المذهب الفاطمي وهو المذهب الإسماعيلي المذهب الرسمي لدولة آل زريع في عدن , والصليحيين في اليمن أو بتعبير آخر من المرجح أنه عرض عليه أن يعتنق المذهب الإسماعيلي من قبل كبار أمراء بني زريع أو الداعية محمد بن سبأ الزريعي التي توثقت في عهده العلاقة المذهبية مع الدولة الفاطمية بصورة قوية . فقد قلد الخليفة الفاطمي الحافظ عبد المجيد الداعية محمد بن سبأ أمر الدعوة في عدن واليمن ، وصار بنو زريع دعاة للفاطميين " مهمتهم نشر دعوة الحافظ المسماة بالدعوة المجيدية " . وربما لهذا السبب يكون عمارة الشاعر اليمني ، قد يكون فاطمي ( الهوى ) سياسياً ، ولكنه ليس من الضرورة أن يكون قد أعتنقه أي أعتنق مذهب الإسماعيلية المذهب الرسمي للدولة الفاطمية في مصر وربما عندما شاهد ولمس عمارة الشاعر اليمني البذخ والثراء والأبهة لمُلك بني زريع وقر في نفسه أن الفاطميين بصورة عامة يملكون مفاتيح كنوز الحياة والسعادة ولذلك دار في فلكهم السياسي ، وصار مدافعاً عنهم ولكنه لم يتبدل عن المذهب الشافعي , ودليل ذلك عندما طلب منه وزير الخليفة الفائز الفاطمي طلائع بن رزيك الدخول في المذهب الإسماعيلي بقصيدة عصماء أرسلها إليه ، يقول فيها : قل للفقيه عمارة يا خير من[c1] *** [/c] أضحى يـولف خطبة وخطابـاًاقبل نصيحة من دعاك إلى الهدى[c1] *** [/c]قل حطة وادخل عليـنـا الباباتلق الأئمة شافعين ولا تجد[c1] *** [/c] إلا لدينا سنة وكتاباوتعجل الآلاف وهي ثلاثة[c1] *** [/c]صلـة وحقك لا تكون جوابا[c1]وعقب عمارة الشاعر اليمني على رسالة الوزير طلائع بن رزيك الفاطمي بقصيدة جاء فيها : "[/c] حاشك من هـذا الخطـاب خطابا[c1] *** [/c]يا خـيـر أمـلاك الزمـان نصابالكن إذا ما أفسدت علمــاؤكـم[c1] *** [/c] معمـور معتقـدي وصــار خراباودعـوتـم فكـري إلى أقوالكم [c1] *** [/c] من بـعـد ذاك أطاعكـم وأجابافاشدد يديك على صفاء مـودتي[c1] *** [/c] وأمنن علـى وسد هـذا البابا [c1]زبيد كرسي الشافعية[/c]وهذا ما أكده العلامة محمد الأكوع نقلاً عن ابن خلكان بأن عمارة اليمني كان شافعي المذهب متعصب إلى مذهبه تعصباً شديداً . والحقيقة أن عمارة درس أول ما درس في زبيد مدينة العلم والعلماء ، والفقه والفقهاء ، على يد الفقيه أبو محمد بن أبي القاسم الإبار وهو من فطاحل الفقهاء الشافعين في زبيد بل وفي اليمن جمعاء . ولقد كانت زبيد في عهده تمثل كرسي الشافعية أو بتعبير آخر مركز الشافعية في اليمن قاطبة . [c1]عُمارة الفقيه[/c] والحقيقة أن عمارة اليمني كان يتقد ذكاءاً , وشغوفاً بدراسة العلوم الشرعية ، فقد تمكن أن يخوض في بحار العلوم الشرعية المختلفة والمتنوعة، وأن يصير من المتميزين في علوم الفقه وأبوابه المختلفة حتى لقب باسم (( الفقيه )) . وفي هذا الصدد ، يقول مؤرخنا محمد الأكوع عن عمارة الفقيه اليمني : " ولا زال يترقى في سلم العرفان إلى أن لقب (( الفقيه )) وهو لقب أشتهر به عُمارة ، فكان يدعى عُمارة (( الفقيه )) ، وهذا اللقب لا يسمح أن يتلقب به إلاّ من خاض عُباب الفقه ، ومخض سقاؤه ، وكانت له مكانته وميزته العلمية لذلك التاريخ ، إذ معنى الفقيه هو الذي يفهم الدليل والتعليل ومسائل الخلاف بجميع أشكالها وأنوعها وبأقوال العلماء ، وأنه قادم على درجة أسمى وأرفع هي درجة الاجتهاد فيما كان للاجتهاد فيه مسرح " . ونستخلص من ذلك أن عُمارة الشاعر أو عُمارة الفقيه اليمني ما كان يختار مذهباً إلا عن قناعة وإيمان به ولذلك ظل على مذهبه الشافعي ، علىالرغم من الترغيب الكبير من قبل وزير الخليفة الفاطمي الفائز طلائع بن رزيك لعُمارة اليمني الدخول في المذهب الإسماعيلي إلا أنه رفض ذلك بأسلوب لبق من خلال قصيدته للوزير رزيك ـــ كما أسلفنا سابقاً ـــ . [c1]في ثغر عدن[/c]ولقد ذكرنا سابقاً ، أنّ عمارة اليمني ضاق ذرعاً بزيبد لكونها لن تحقق أحلام طموحاته العريضة التي ترتقي به إلى سلم المجد والسؤدد , والثراء العريض ، وأن يكون قريباً من أصحاب السلطان والصولجان . ففكر وقرر أن يرحل إلى عدن التي كانت ـــ حينذاك ـــ تحت حكم آل زريع ــ كما أشرنا سابقاً ـــ ، وتمكن بعد فترة ليست طويلة ، أن يكون من المقربين إلى قلوب وعقول حكام وأمراء بني زريع ، وتوطدت علاقته بهم بشكل كبير حتى عبر عن ذلك المؤرخ محمد الأكوع ، قائلاً : " ... والتحمت بهم الصلة الأكيدة حتى ارتفعت فيما بينهم الحشمة " . والحقيقة أنه كانت هناك عوامل ساعدت عمارة اليمني أن يدخل إلى قلوب وعقول حكام آل زريع في عدن أو الفاطميين في مصر ، . فقد كان عُمارة اليمني ، " فقيهاً نبيهاً عارفاً بارعاً نحوياً لغوياً شاعراً بليغاً أديباً " . كل تلك الأسباب مجتمعة ساعدته أن يكون لديه حظوة سواء عند آل زريع في عدن أو الفاطميين في مصر . [c1]سفير أمير مكة[/c] وعندما رحل إلى مكة المكرمة ومكث فيها فترة من الزمن ، وجد نفسه الطموحة المتطلعة دائماً إلى العُلا ، والمجد ، والشهرة الواسعة ، قد صدمت بصخور الغربة الموحشة ، والعزلة القاسية ، وكاد الإحباط أن يمزق كيانه ، ولكن عمارة اليمني كان ذا شخصية قوية تمكن أن يقفز على حواجز الفشل التي تعيقه من النجاح بمهارة بالغة ، وكان بفضل ما أتسم به من علم غزير ، وأسلوب أخاذ في كسب المستمعين إليه فقد لفت إليه الأنظار ، وأن يصير ذائع الصيت في فترة وجيزة من مكوثه في مكة المكرمة حتى ترامت شهرته مسامع أمير مكة الذي جعله سفيراً بينه وبين الخليفة الفائز الفاطمي . وهنا ربما كان مناسباً ، أن نقتبس من كلام العلامة القاضي محمد الأكوع عن صفات عُمارة الشاعر اليمني التي أهلته أن يكون ذائع الصيت في مكة بين الناس ، وأن يتبوأ مكانة كبيرة عند أمير مكة ، فيقول : " وأحس بالإنفراد والوحشة وخيبة الأمل فرأى خير طريق للفت أنظار الناس إبراز أبريزة المكنون بما فيهم أمراء مكة ، أن يعقد مجلس وعظ في الحرم الشريف ، فتصدى للوعظ يوقظهم بزواجر لفظه ، ويذكرهم ينابيع حكمه ،، ووعظه ، وكان يتفجر كالنهر المنهمر بالعلوم والآداب والآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تبين الحلال والحرام وما جاء به دين الإسلام حتى أسمع من به صمم " . ويمضي في حديثه ، قائلاً : " وبلغت أحاديثه أمير مكة قاسم بن هاشم فليته ، فطلبه فأعجب به وبذكائه ، وأنه خير من ينتخب للسفارة " . ويوضح محمد الأكوع أن سبب إرسال أمير مكة عُمارة اليمني إلى الخليفة الفاطمي الفائز تعود إلى مشاكل كانت عالقة بينهما ، وأن ذكاؤه ، وفطنته ، ولباقته ستبدد حتماً سحب تلك الغيوم بينهما. [c1]في عاصمة الخلافة الفاطمية[/c]وبالفعل وصل إلى مصر سنة ( 550 هـ / 1155م ) , وفي قاهرة المعز ، لفت عُمارة اليمني أنظار الخليفة الفائز بن الظافر الفاطمي ، ووزيره طلائع بن رزيك الذي كان صاحب اليد الطولى في الخلافة الفاطمية في مصر ، شخصيته التي كانت تفيض بالذكاء الحاد ، ولباقته ، وشعره الجيد الذي كان ينثره على كبار أصحاب النفوذ والجاه في الدولة الفاطمية وعلى رئسهم الخليفة الفاطمي ، ووزيره ، وعندما التقى عمارة الشاعر اليمني لأول مرة بالخليفة الفاطمي الفائز ، ووزير طلائع بن رزيك ، فقد أنشد شعراً جاء فيه : الحمد للعيس بعد العزم للهم حمداً يفوق بما أوليت من نعم ويعقب العلامة محمد الأكوع على تلك القصيدة وأثرها الكبير على الخليفة الفاطمي الفائز ، ووزيره طلائع بن رزيك ، قائلاً : " وهي قصيدة مبثوثة في ديوانه فاستحسنا قصيدته وأجزلا صلته ، وأقام إلى شوال سنة ( 550هـ ) في أرغد وأعز جانب " . [c1]وغربت شمسها[/c] وانهمرت الدنيا على عُمارة اليمني من كل مكان ، وظن أنه ملك كرة المجد ، والنفوذ , والسعادة بيديه ولكنه أدرك أن الحياة الطيبة الذي كان يعيشها في ظلال الفاطميين صارت سراباً ، فقد دمرت العواصف السياسية صرح الخلافة الفاطمية العظيم في مصر التي كانت تنافس الخلافة العباسية في بغداد وحولتها أثراً بعد عين بعد أن حكمت الكثير من بلدان العالم العربي والإسلامي أكثر من مائتي عام . فقد أعلن صلاح الدين الأيوبي بعد وفاة الخليفة العاضد ( 567 هـ / 1172م ) آخر الخلفاء الفاطميين عودة مصر إلى الخليفة العباسي في بغداد . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور قاسم عبده قاسم : " أعاد ( صلاح الدين الأيوبي ) الخطبة للخليفة العباسي على منابر القاهرة وتم ذلك دون ضجة . ففي أول جمعة من شهر محرم سنة 567هـ / 1171م ( أو الجمعة الثانية حسبما يذكر المقريزي ) خُطب باسم الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله العباسي وقُطعت الخطبة للعاضد " . وفي موضع أخر يقول قاسم عبده قاسم : " لقد خلت الساحة تماماً لصلاح الدين بوفاة الخليفة العاضد يوم 11 محرم سنة 567هـ / 1170م ، وفي يوم عاشوراء ، دون أن يدري أنه آخر الخلفاء الفاطميين في مصر " . وكان من الطبيعي أن تلك الأحداث الخطيرة والجسيمة ، والأمور العظيمة أن تحدث أثرها على عُمارة اليمني وتزلزل كيانه ، فتفقده توازنه بعد أن كان في قمة المجد بجانب الخلفاء الفاطميين ووزرائهم الكبار أصحاب السلطة الفعلية في البلاد ، إذ به يرى أن العز ، والأبهة اللذين كانا يرفل فيهما قد تمزقا . [c1]وهم عُمارة اليمني[/c] والحقيقة أن عمارة اليمني عاش في وهم كبير بأن الخلافة الفاطمية لا بد أن تعود مرة أخرى على سطح القوة ، والصولجان ، والسلطان ، وتحكم مرة ثانية العالم العربي وأن يكون لها نفوذها الروحي النافذ في العالم الإسلامي . ولكن عمارة اليمني لم يفهم حقائق الأمور السياسية على أرض الواقع ، بأن الخلافة الفاطمية قد أنطفات جذوتها , وانكسرت شوكتها ، وذهب رياحها منذ الخلفاء الفاطميين الضعاف الذين كانوا ألعوبة بيد وزرائهم وقادتهم العسكريين من ناحية والصراع الدموي بين الوزراء الفاطميين من ناحية أخرى على الحكم مثلما حدث مع الوزير ضرغام ، وشاور الذي تمكن الأخير من القضاء عليه و قتله بمساعدة صلاح الدين الأيوبي والذي بدوره قتل الوزير شاور الذي تعاون مع الصليبيين لغزو مصر. ويشرح الدكتور أحمد شلبي بإيجاز أسباب سقوط الخلافة الفاطمية ، قائلاً : " وكانت سلطة الوزراء ، وعناصر الجيش ، والأزمات الاقتصادية ، وتولية كثير من الخلفاء وهم أطفال من دواعي انحلال الدولة وسرعة زوالها " . قلنا سابقاً : إن عُمارة اليمني كان أسير وهم كبير وهو أن تعود الخلافة الفاطمية إلى سابق قوتها تحكم البلاد والعباد , ولم يدر بخلده لحظة واحدة أن شمسها قد غربت ، وتوارت عن مسرح العالم العربي والإسلامي السياسي نهائياً . [c1]وفاؤه الكبير[/c]والحقيقة أن عمارة اليمني الشاعر ، لم يهدأ , ولم يستكين بعد زوال حكم الخلافة الفاطمية في مصر وسيطرة الناصر صلاح الدين الأيوبي على مقاليد الخلافة والخلفاء في مصر ، فقد كانت أشعاره تحريض على حكمه , ولم يخش لومة لائم من أنصار الناصر صلاح الدين الأيوبي بالرغم من تربعهم في قمة السلطة . ونقل لنا العلامة المؤرخ محمد الأكوع عن المقريزي عن شجاعة وإخلاص ، ووفاء عمارة اليمني الشاعر تجاه الخلفاء والخلافة الفاطميين ، قائلاً : " قال المقريزي فلله در عمارة لقد قام بواجب الوفاء ووفى بحس الحفاظ كما هي عادته لا جرم أنه قتل في واجب من يهوى كما هي عادة المحبين " . [c1]قضية إعدامه[/c] يقول التاريخ في حيثيات قضية إعدام عمارة اليمني الشاعر على يد الناصر صلاح الدين الأيوبي , بأنه تآمر مع جهات خارجية وهم الصليبيين والبقية الباقية الموالية للفاطميين بمصر ضد الناصر صلاح الدين الأيوبي ، فنفذ عليه حكم الإعدام شنقاً حتى الموت . وهذا ما أكده الدكتور قاسم عبده قاسم ، قائلاً : " ... جرت مكاتبات لترتيب مؤامرة مع بقايا القوى الموالية للفاطميين في مصر بزعامة عمارة اليمني الشاعر في خطة تشبه تلك التي كان مؤتمن جوهر ( أحد كبار العاملين في حاشية الخليفة العاضد الفاطمي ) قد رتبها معهم من قبل . وانتهت المؤامرة بالفشل وتم صلب عمارة اليمني وعدداً من زعماء المؤامرة " ويذكر قاسم عبده قاسم إلى أنّ عمارة اليمني ، قد شجع الناصر صلاح الدين الأيوبي إلى إرسال حملة عسكرية إلى اليمن للقضاء على البقية الباقية من الصليحيين في مناطق اليمن ، وآل زريع في عدن الذين كانوا امتداداً لنفوذ الفاطميين السياسي والروحي في مصر . وفي هذا الصدد ، يقول : " وفي السنة التالية 569 هـ / 1173م توجه تورانشاه ، أكبر إخوة صلاح الدين إلى اليمن فملكها . ومن الغريب أن الذي كان يحثه على غزوها الشاعر عمارة اليمني الذي قتل في أحداث المؤامرة الفاشلة مع الفرنج ونورمان صقلية " . ومن المحتمل أن يكون عمارة اليمني ، قد دفع بالناصر صلاح الدين الأيوبي إلى تجريد حملة إلى اليمن حتى يتمكن من إحكام خطته ضد الناصر الأيوبي بعد سحب جزء كبير من قواته العسكرية من مصر مقر حكمه وبذلك يسهل تدبير المؤامرة على الأيوبيين . [c1]ليلة إعدامه[/c]ويذكر العلامة المؤرخ محمد الأكوع أن القاضي الفاضل الذي كان له مكانة كبيرة عند الناصر صلاح الدين الأيوبي ، كان دائما يدافع عن عمارة الشاعر ، ويعمل بشتى الوسائل والطرق على عدم التعرض لغضبة السلطان , ولكن عندما انكشفت المؤامرة بقيادته ضد صلاح الدين الأيوبي , فقد سقط الأمر من يده ، وتخلى عنه ، ولم يحرك ساكناً ، وفي هذا الصدد ، يقول محمد الأكوع : " ولم يقم ( يقصد عمارة اليمني ) إلاّ قليلاً حتى قتل ، ولم يكتف بالتحريض بالأشعار بل تجاوز إلى التآمر مع جماعة من المصريين لقلب نظام الحكم وإعادة دولة المصريين . وكان القاضي الفاضل يذود عنه ويصد صلاح الدين عن أذيته ، فلما عرف الحقيقة كاملة وأحس بهم صلاح الدين ، طلبهم , وقاررهم فلم ينكروا ولم يروه منكراً فشنقهم يوم السبت ثاني شهر رمضان سنة 569 هـ تسع وستين وخمسمائة " . ويضيف بامخرمة بأن عُمارة اليمني " شنق في درب يعرف بخزانة البُنود في القاهرة وذلك في 12 رمضان من سنة 569هـ " أي أن تاريخ يوم إعدامه كان في 12 رمضان وليس في اليوم الثاني من رمضان كما ذكر الأكوع. ويروي بامخرمة ليلة إعدام عُمارة الشاعر اليمني بأنه طلب من الحراس أن يمروا به على باب القاضي الفاضل لعله يشفع له عند السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي , ولكن عُمارة خاب رجاءه ، فقد تحاشاه القاضي الفاضل . وفي هذا الصدد ، يقول أبومخرمة : " ولما خرجوا به ليشنقوه أمرهم أن يمرّوا به على باب القاضي الفاضل ، فلمّا علم القاضي الفاضل بذلك أمر بإغلاق باب داره ، فلمّ مرُّوا به هنالك ورأى الباب مغلقاً انشد مرتجلاً : عبـدُ الرحيـم قد أحتجـب[c1] *** [/c]إنّ الخـلاص هـو العـجـب [c1]اسمه ونسبه[/c] ويروي العلامة القاضي محمد بن علي الأكوع عن اسم ونسب عُمارة الشاعر اليمني ، قائلاً : " هو أبو محمد عُمارة بن أبي الحسن علي بن محمد بن زيدان الحكمي اليمني الملقب نجم الدين الشاعر المشهور فهو من قحطان ثم من قبيلة الحكم بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد بن زيد بن عمر بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ " . ويسرد محمد الأكوع مناقب قبيلة الحكم قبيلة عُمارة ، قائلاً : " وقبيلة الحكم قبيلة عزيزة الجانب شهيرة ذائعة الصيت جاهلية وإسلاماً وممن ساهمت مساهمة تذكر بكل تقدير وإعجاب في الفتوحات الإسلامية ، وأنجبت صفوة مختارة من القادة والرؤساء ، والفرسان ، والعلماء النبلاء ، كانوا غرة في جبين الدهر ومنهم فاتح أرمينية في الدولة الأموية وهو الجراح بن عبد الله الحكمي ، ومنهم أبو نواس ، ومنهم آل الجراح في الدولة العباسية الذين منهم علي بن عيسى ابن داود بن الجراح الذي قال في وصفه الصولي : " لا أعلم أنه وزر لبني العباس وزير يشبهه في عفته ، وزهده ، وحفظه للقرآن ، وعلمه بمعانيه . وكان يصوم النهار ويقوم الليل ولا أعرف أني خاطبت أحداً أعرف منه في الشعر " . ويفهم من هذا أن عمارة الشاعر اليمني لم يتفوق في الشعر من فراغ ، فقد كان من أصول قبيلته من يقرض الشعر الحسن من ناحية وطموحات الواسعة التي تنزع إلى المجد والفخر تعود جذورها إلى نسبه الرفيع من ناحية أخرى .[c1]من زبيد[/c]والجدير بالذكر أن عُمارة الشاعر اليمني ولد في قرية الزرائب وهي قرية من قرى زبيد ـــ حسب قول العلامة المؤرخ محمد الحجري ــــ . وأما نشأته فيقول عنها العلامة القاضي محمد الأكوع : " وقد نشأ عُمارة في بيت علم وصلاح وفقه ورياسة وترعرع في أحضان معرفة ، وغذى بلبان العرب فجاء نظيفاً نقي النفس ذا ورع وعفة " . [c1]الهوامش :[/c]عمارة اليمني الشاعر ؛ تاريخ اليمن ( المفيد في أخبار صنعاء وزبيد ) ، حققه وعلق عليه : محمد بن علي الأكوع الحَوالي ، الطبعة الثالثة 1985م ، المكتبة اليمنية للنشر والتوزيع ــ صنعاء ـــ .الدكتور قاسم عبده قاسم ؛ في تاريخ الأيوبيين والمماليك ، طبعة سنة 2003م ، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ــ مصر العربية ـــ . الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية ، الطبعة الثانية 2004م ، إصدارات جامعة عدن . الجمهورية اليمنية. الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 ـــ 1635م ، سنة الطبع 1969م ، معهد البحوث والدراسات العربية ـــ جامعة الدول العربية ـــ .عبد الله الطيب بامخرمة ، تحقيق : أوسكار لوفجرن ؛ تاريخ ثغر عدن ، الجزء الأول ، الطبعة الثالثة 1407هـ / 1986م . منشورات المدينة ـــ صنعاء ـــ .الدكتور أحمد شلبي ؛ موسوعة التاريخ الإسلامي ، الطبعة التاسعة ( 1999م ) ، مكتبة النهضة المصرية العلامة المؤرخ محمد بن أحمد الحجري ، تحقيق وتصحيح ، ومراجعة إسماعيل بن علي الأكوع ؛ مجموع بلدان اليمن وقبائلها ، الطبعة الأولى 1404هـ / 1984م . منشورات وزارة الإعلام والثقافة ، الجمهورية العربية اليمنية .
|
تاريخ
أيام عمارة اليمني الأخيرة
أخبار متعلقة