كان ذلك قبل بضعة أسابيع.. وكان هو قد قرأ لي كثيراً في الصحف.. ثم التقينا ودار بيننا هذا الحوار،قال ـ وفي عينيه تساؤل :ـ أنت تقول إنّ الأوضاع في اليمن ستتغير قبل أن تتحرر هذه الأجزاء (عدن والإمارات) من الاستعمار؟ـ هذا رأيي، واعتقد أنّ أي إنسان يدرك جيداً طبيعة الحكم الفردي وطبيعة الاستعمار لا يشك في سلامة هذا الرأي، وعلى أية حالٍ فهذه وجهة نظر واحدة لك أن ترفضها أو تقبلها.ـ ولكن كيف تتخذ من هذا الرأي سبباً في معارضتك للدعوة إلى قيام كيان مستقل أو دولة مستقلة ذات سيادة للجنوب (عدن والإمارات) واعتبارك لها منافية لمبدأ الوحدة الشعبية ومخالفة لمنطق التطور والقومية العربية!ـ هذا سبب واحد وربما كان أهم سبب لأنّ أصحاب تلك الدعوة يتخذون من تخلف الأوضاع الحاضرة وفسادها في اليمن ذريعة لتبرير دعوتهم ويتكئون كثيراً على هذا العذر.ـ ولكن ماذا يكون الحال لو حصلنا على استقلالنا هنا قبل أن تتغير الأوضاع هناك؟ـ أي استقلال تعني؟ ـ وهل الاستقلال أنواع؟ولمَ لا؟ إنني أخشى مثلاً أن تتعجل قيادة الحركة الوطنية قطف ثمار الحركة فتقبل ـ عند أول بادرة لتراجع الاستعمار تحت الضغط الشعبي ـ استقلالاً اسمياً شكلياً مقيداً بحلف أو معاهدة!ونحن لن نقبل أي مساومة على قضيتنا الوطنية.. نحن لا نريد مثل هذا ((الاستقلال))!!ـ ولكن .. لنفرض أننا حصلنا على استقلال حقيقي وتحررنا من الاستعمار تحرراً كاملاً ناجزاً بينما بقيت الأوضاع في اليمن على ما هي عليه من التخلف والتأخر.. فهل هنالك من يُعارض في أن نُقيم لأنفسنا كياناً مستقلاً قائماً بذاته ودولة ((جنوبية)) مستقلة ذات سيادة؟ـ في حالة تحقق هذا الفرض وهو الفرض اضعف والأقل احتمالاً فلا مفر من هذا. ولا مفر من أن أقول لك ما كنت أقوله لإخواني الرابطيين عندما كنت عضواً في الرابطة : لا يمكن أبداً أن نسلم مكاسبنا وثمار كفاحنا لأية حكومة رجعية في اليمن فتشوهها وتمسخها وتعتصرها وتسحقها تحت أقدام الطغاة.ولكننا أيضاً وبالقوة نفسها نرفض أن نسلِّم مكاسبنا لأية قيادة مترددة تتسلمها بدورها للقوى الرجعية.. كالسلاطين مثلاً!ـ وما دخل السلاطين هنا؟ـ بل لهم دخل كبير حتى الآن مع الأسف، فنحن يمكن أن نقسم السلاطين إلى جبهتين رئيسيتين : ((الجبهة الموالية للاستعمار)) و((الجبهة السلطانية المعارضة)) بزعامة أحدهم.. وفي التسمية الأخيرة طبعاً كثير من التجاوز، فإنّ معارضتها ليست معارضة بالمعنى المفهوم، وإنّما هي معارضة محدودة وسلبية.. معارضة سلطانية ناعمة.. وهي لا تقوم على أساس رفض الوجود الأجنبي كلياً، ومن أساسه ولا بواسطة الصدام المباشر مع الاستعمار، بل تجري خلف الكواليس وتتخفى وراء بعض التحركات الشعبية التي تجد فيها سنداً غير مباشر لوقفها، وترمي أساسًا إلى تحقيق بعض المكاسب الجزئية للشعب أو على الأصح للفئات العليا من الشعب وإلى تدعيم نفوذها مع الاعتراف بالقليل أو الكثير من المصالح للحكم الأجنبي والتفاهم معه على إعادة تنظيم ارتباط الجنوب به بطريقة أخف وطأة من حيث الشكل من الارتباط الحاضر.وهذه الجبهة السلطانية كما ترى ذات أحلام وطموح.. وبينها وبين الاستعمار صراع خفي ولقد كان لموقفها أثره الفعال في تمييع موقف السلاطين كافة من مشروع الاتحاد الفيدرالي وترددهم في قبوله حتى انتهى الأمر بتجميده. وربما أنّها رأت في قبوله ضياعاً لنفوذها وهي تحلم بنفوذ أكبر، فإعلان حرب على اليمن، وهي تحب أن تحتفظ بعلاقات ودية مع اليمن وتستفيد من النزاع الانجلو ـ يمني، يعني فقداناً لشعبيتها وخسراناً كبيراً من الوجهة الشعبية. وهي تحب أن تضفي على موقفها صبغة وطنية.ويخيل إلي أنّ هذا الصراع الخفي الناعم قد بدأ يدخل في طور جديد حادٍ بعد ثورة النائب اليافعي محمد بن عيدروس.. فهي تتطلع إلى تحويل هذه الحركات لصالحها!ـ وماذا يهمنا في ذلك؟ـ بل يهمنا كثيراً، إذ أننا لا نستطيع أن ننظر إلى هذه الجبهة بمعزلٍ عن جزءٍ مهم ورئيسي من قيادة الحركة الوطنية.. وعن أهداف وبرامج ومواقف هذا الجزء القيادي المهم.(ولم يدعني صاحبي أكمل الحديث بل انتفض قائلاً:)ـ حتى أنت تريدنا أن ننشغل بالسلاطين ونحارب في أكثر من جبهة واحدة.. وأنت خير من يعلم أنّ الاستعمار هو الخطر الأكبر والأساسي؟ـ ومتى كان السلاطين جبهة قائمة بذاتها.. أنّهم في مجموعهم، وأساساً، جزء من الجبهة الاستعمارية التي تشمل كل القوى الرجعية.ولئن كان من الخطأ في رأيي أن يقتصر كفاحنا على السلاطين أو نضخم كفاحنا ضدهم ونهول من شأنه بحيث يضعف أو يطغى على كفاحنا ضد الاستعمار، فإنّ من الخطأ أيضاً أن نسكت عنهم سكوتاً مطلقاً بدعوى الحرص على عدم تعدد الجبهات.. فضلاً عن أن نعلق عليهم الآمال الكبار!!ـ وهل يكون هذا هو موقفنا من جميع السلاطين دون تمييز؟ـ ماذا تعني؟ـ أعني .. ماذا يكون موقفنا مثلاً من بعض السلاطين الذين نعرف أنّ لهم مواقف طيبة والذين يمكن أن نؤمل فيهم ولو بعض الخير.. وربما كان هؤلاء هم الذين أسميتهم ((بالجبهة السلطانية المعارضة))؟!ـ إنّ منطق الكفاح الوطني يحتم تكتيل جميع القوى والعناصر المعارضة للاستعمار مهما كان أصلها الطبقي ومهما كان نوع ومدى معارضتها وحتى لو كانت معارضتها تستهدف في المدى القريب أو البعيد تحقيق مصالح ذاتية خاصة لا مصالح شعبية عميقة الجذور.وتبعاً لذلك استطيع أن أقول إنّ علينا أن نعامل أمثال أولئك السلاطين معاملة خاصة.. وفي حدود المواقف المعارضة التي يقفونها، وبحذر بالغ.ومعنى ذلك أنّ علينا أن نشجع الجوانب الطيبة عندهم ما دامت لهم مواقف تفيد منها الحركة الوطنية بشكل أو بآخر، وأن نراعي هذا كله عند تحديد موقفنا منهم ونقدنا للأوضاع القائمة في المناطق الواقعة تحت نفوذهم.ولكن ليس معنى ذلك أن نرتبط بهم ونثق فيهم ثقة كاملة ونشركهم في تقرير النتائج الحاسمة للحركة الوظنية. أو بعبارة أخرى، ليس معنى ذلك أن نضع القضية الوطنية في أيديهم ونعتمد كل الاعتماد أو أكثره على صراعهم مع الاستعمار ونخضع كل خطواتنا لمواقفهم.وليس معنى ذلك أن نسكت عن جوانبهم الخاطئة ونخذل أي مطلبٍ شعبي أو انتفاضة شعبية، تجنباً لإغضابهم بحيث تطغي مجاملتنا لهم على المصلحة الشعبية.يجب أن نقف دائماً إلى جانب الشعب، وأن نعلم أنّ هؤلاء السلاطين، بحكم مصلحتهم لا يستطيعون أن يمضوا إلى نهاية الطريق أو يتخذوا مواقف صلبة حاسمة ضد الاستعمار.يجب أن يكون اعتمادنا على ذلك التناقض السلطاني ـ الاستعماري اعتماداً قوياً معارضاً، وأن يكون اعتمادنا الأساسي على خطتنا الكفاحية.. على القاعدة الشعبية. ذلك أننا لا نستطيع أن نعمِّق مضمون حركتنا الوطنية النامية الزاحفة تحت شعار التحرر والوحدة والاشتراكية، إلا إذا عمقنا جذورها في أرض الجماهير العريضة الكادحة وعايشنا كفاحها وارتبطنا بها ارتباطاً حياً وثيقاً، وإلا إذا جعلنا الشعب نقطة البدء في حركتنا!!ـ حسنا.. لقد نبهتني إلى أشياء كثيرة.. ولكن ما السر وراء شعار تقرير المصير الذي برز هذه الأيام بقوة؟ـ نعم .. أنّه البديل الصحيح في نظري عن أية دعوة أخرى.فما دمنا نؤمن أننا شعب واحد مهما جزأتنا الحواجز والسدود المفتعلة وما أنّ هناك احتمالاً بأن تتغير الأوضاع في اليمن قبل أن تتحرر هذه الأجزاء .. وما جعلت القضية بالدرجة الأولى هي قضية التحرر من الاستعمار وكل القوى الرجعية، وما دمنا نرى في الدعوة إلى إقامة دولة مستقلة للجنوب من الآن توعية أبنائه للشعب على أساس انفصالي وتجزئة لكفاح الشعب الواحد.. بل دعوة محفوفة بالمخاطر والمخاوف التي تحركها في نفوسنا معرفتنا بأطماع السلاطين والفئات الحاكمة!!ما دام الأمر كذلك.. فيجب أن نتفادى أية دعوة تهدف إلى تحديد كيان سياسي معين للجنوب.. ويجب أن نترك الباب مفتوحاً لإرادة التطور وإرادة الشعب هنا وهناك.ومن هنا تبرز أهمية وسلامة شعار تقرير المصير فهو ينزل قضيتنا من المستوى الرسمي، مستوى النزاع الحكومي الانجلو ـ يمني إلى المستوى الشعبي. وهو يفوِّت على الاستعمار فرصة دمغ حركتنا بوصمة التبعية لحكام اليمن الرجعيين، وهو يقي على فكرة الإلحاق والضم الجبري التي قد تجول في رؤوس الرسميين اليمنيين.. ويفتح الطريق لكفاح مشترك ينهض به كل الشعب هنا وهناك من أجل التحرر من الاستعمار والاستبداد والرجعية.. وفي المقابل الوحدة والديمقراطية والاشتراكية، على أنّ هناك مسألة خطيرة تشغل بالي.ـ أية مسألة؟ـ إننا عندما نتحدث عن احتمال تغير الأوضاع هنا أو هناك يجب أن لا نهمل احتمالاً خطيراً، وهو أن تتغير الأوضاع في اليمن بسرعةٍ فعلاً ولكن إلى أسوأ إلى أخطر.إنّ إحساسي بالخطر على مستقبل اليمن يتزايد هذه الأيام أكثر فأكثر، فالإمام يقبع مريضاً ويحكم اليمن من على فراش الموت.وبين البدر والحسن صراع وتطاحن.ورائحة البترول المختلطة بوجود الروس في اليمن تفتح شهية أمريكا للتآمر. والاستعمار يتربص باليمن اليوم أكثر من ذي قبل.وفي عدن تظهر قوى سياسية جديدة بطريقة مريبة تحمل راية الكومنولث!! وما أكثر الأذناب والانتهازيين والعملاء هنا وهناك.. وفي المقام الشريف!!وما أكثر هواة الانقلابات واللاعبين بالنار على مستقبل اليمن.ولا ضمانات شعبية!!ولا أظن الاستعمار يطمع في أكثر من قيام حكومة موالية له في اليمن لا في احتلال مباشر.وما أخطر أن يحدث هذا.. ما أخطره على مستقبل اليمن.. على حركتنا الوطنية وعلى الجبهة العربية التحررية بقيادة مصر وسورية.وعند هذه النقطة انتهى الحوار وودعني صاحبي، وبعد أيام تأكد إحساسي ووردت أنباء مؤامرة أو مشروع مؤامرة من تعز.ولقد كانت ناقوس خطر.. وإنذاراً رهيباً لكل من يهمهم مستقبل اليمن، بأن يراجعوا خططهم ويحملوا مسؤوليتهم بشرف من أجل الدفاع عن مستقبل اليمن الذي هو جزء من مستقبل الأمة العربية.[c1]* الفكر - العدد - 76 - السنة الثانية - الأحد 9 فبراير 1958[/c]
الاعبون بالنار في اليمن
أخبار متعلقة