قبل شهرين، وفي صحيفة (الجنوب العربي) الزاهرة، حدثتك عن قصة (المسيح الجديد)!ولتستمع إلى طرف منها :من حين لحين نقرأ في الصحف العدنية دعوات عجيبة مريبة!! دعوات تبشر بالمحبة والسلام، وتنادي بدفن الأحقاد والخلافات في قبور النسيان.وتنساب كلماتها إلى أذاننا ككلمات السيد المسيح في عذوبة ورنين:أيُّها الناس ! أيُّها القرَّاء !(باركوا لاعنيكم) ! أحبوا بعضكم بعضًا ! أنتم جميعًا أخوة !أنبذوا الخلافات والمهاترات.أنتَ يا من تؤمن بمبدأ اتحاد الجنوب لا تخاصم ابن وطنك الانفصالي ولا تناصبه العداء!كفى ما جره هذا الخلاف في الماضي من المهاترات. وحملات سباب وقذف.ولترتفع في السماء تراتيل الصفاء والوئام !واسكتي يا صحف !(.. وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة).والمجد .. للمسيح الجديد!!****وتمسكت الصحف وتسود تعاليم المسيح الجديد ويعتنقها الكثيرون من ذوي القلوب الطيبة والعقول السريعة إلى التصديق، المخطوفة بكل دعوة جديدة.بالرغم من أنّه لا مكان في عصرنا للأنبياء بل أنّك تستطيع بكل ثقة واعتداد أبناء عصر الذرة أن تصرخ في وجه من يدعي النبوة : “لا نبي بعد محمد. إلى الجحيم أيها النبي المزيف”!!نعم ونبي الصحافة العدنية مزيف، يجب أن تكشف الأقلام عن حقيقته وتعريه من قدسيته الزائفة وتعرضه على الناس بلا وحي.. ولا نبوة.. ولا صليب !!إنّ تلك الدعوات الحارة دعوات الإخاء والمحبة والسلام ليست مخلصة، ولم توحِ بها السماء!ولا يقف مدلولها عند حد الامتناع عن المهاترات الشخصية في الصحف بين الخصوم في المبدأ.إنّ هدفها البعيد هو اجتثاث جذور الخلاف المبدئي ذاته، مجرد الخلاف الشريف بين ذوي المبادئ المتعارضة.وهدف آخر، هو خلق مقاييس جديدة يبدو من خلالها الجميع... العمالقة والأقزام، أصحاب المبادئ البناءة وغير البناءة على صعيد واحد، وفي حجم واعتبار ومستوى واحد!*لماذا ؟**أما أنْ يكون هؤلاء الدعاة بلا مبادئ أصلاً فهم لا يرون مبررًا للخلاف.وعلى ذلك فهم منطقيون مع أنفسهم، وهنيئًا لهم هذا البال الخلي والعقل المتوكلي!!وأما أنّهم يعتنقون مبادئ غير شعبية فهم لا يريدون أن ينزلوا بها إلى أرض المعركة وجهًا لوجه وقلما لقلم مع خصومهم في المبدأ؛ لأنّهم يعرفون ضعف مبادئهم ويعرفون هزيمتهم مقدمًا !ولابد أنّهم جربوا هذا الخلاف مرةً في حياتهم وحصدوا نتائجه المريرة !!إذن .. فليلبسوا مسوح الرهبان وليحتموا وراء الدعوات الأخوية المغرية وليتخذوا منها ستاراً يخفي تفاهتهم، وتفاهة المبادئ التي يمثلونها.لعل الناس يصدقونهم فيبقون في مأمن من لعنة الشعب !!ويصدقهم الكثيرون مع الأسف وتصدقهم الصحف، جهاز الوعي الأول في البلد.. ويخمد صرير الأقلام ويصبح كل من يثير قضية مبدئية مهاترًا، وكل من يحاول الدفاع عن المبدأ الذي مزجه بحياته متهمًا بإعادة المهاترة في الصحف.بل يغدو للمهاترة تفسير جديد غريب !!فإذا رأيت مثلاً صحيفة تروج لسياسة غير عربية وترسيخ النفوذ الأجنبي في بلادك. فلا تقل إنّها خائنة وإنها تعمل لحساب أعداء الوطن.. وإلا اتهموك بالمهاترة!وإذا كنت اتحاديًا وأردت أنْ تهاجم شخصًا يمثل الانفصالية أشنع تمثيل .. فإياك أن تمسه بكلمة سوء.فإنّ أيسر ما سيتهمونك به هو أنَّك مهاتر.. وتسب الناس ! وأخشى أنْ يقولوا لك بعد حين :إذا دخل اللص بيتك فلا تمسك بتلابيبه، ولا تستدع البوليس للقبض عليه .. وإلا غدوت إنسانًا مهاترًا ينضح قلبه بالحقد والصديد على أنّهم قد يسمحون لك أن تقول عن تلك الصحيفة ذات السياسة اللاعربية واللا قومية، وعن ذلك الشخص الانفصالي أنّك تختلف معهما في الرأي!هكذا يفسرون معنى المهاترات.وهكذا تصبح خيانة الأوطان نفسها مجرد خلاف في الرأي.. بل مسألة فيها نظر!!إننا نفهم أنْ يعبئوا قواهم ضد كل من يحاول أنْ يقلب صفحات الصحف إلى مسرح للعار، وللمهاترات بمعناها الحقيقي وهو النيل من الأشخاص وتجريح حياتهم الخاصة وسلوكهم الشخصي.أما أنْ يصبح الخلاف الشريف ذاته في نظرهم مهاترة صحفية، وأما أنْ يطلبوا منا أن نتخلى عن مبادئنا ونصدر صحفـًا لا عقيدة لها تُدافع عنها، ولا أهداف ترسمها للشعب، ولا رسالة توجيهية في الحياة تتناول مشاكل الجماهير وقضاياها، بدعوى أنّ ذلك كله قد يثير المهاترات في الصحف.. فلا .. وألف ألف لا !!ومزقي يا أقلام الكُتـَّاب الشرفاء أقنعة النبوءة المزيفة.هذه هي قصة (المسيح الجديد) كما رويتها لك قبل شهرين في (الجنوب العربي) الأغر.. وقد اضطررت إلى أنْ أنقل جزءًا كبيرًا من المقال لأعطيك صورة واضحة عن الموضوع.ولم يجل بخاطري وأنا أكتب ذلك المقال أنّ مسيحًا آخر سيظهر في بلادنا بعد شهرين فقط. مسيحًا يتكلَّم الإنجليزية ويبشر بالمحبة والإنسانية في هذه الديار العربية بلغة أبناء التايمز.ولكن .. هكذا شاءت لنفسها مع الأسف صحيفة (الريكوردر) لصاحبها الصديق محمد علي باشراحيل العضو المُعيَّن في المجلس التشريعي والعضو العربي الوحيد في المجلس التنفيذي.لقد خرجت هذا الأسبوع تعلق على مقال نشره (واقعي) في الزميلة (الجنوب العربي) وسفه فيه فكرة إصدار صحيفة بالإنجليزية وشبَّه صاحبها بالترجمان أو الدليل الذي يتبع السياح من مكان إلى آخر، ويستطلع رغباتهم ويتحرَّك بإشارتهم!! ولكم كان واقعي موفقـًا في هذا التشبيه الرائع.وأنا شخصيًا مع الكاتب فيما ذهب إليه.إنني لا أرى مطلقـًا أي مبرر لإصدار صحف بالإنجليزية في بلاد عربية وخصوصًا إذا أريد بها أن تكون أداة لخدمة القضايا الوطنية وتعريف الحكام بمطالب الشعب!!ولن أظلم أحدًا إذا قلت إنّ الدافع الرئيسي الذي يحملُ البعض منـَّا على التفكير في إصدار صحف بالإنجليزية هو في جوهره دافع تجاري من حيث أنّ الصحيفة الإنجليزية أقدر على الحصول على وفرة من الإعلانات!ومنشأ ذلك سيادة اللغة الإنجليزية في بلادنا، وكونها لغة المصالح والدوائر والشركات، وكون عدن سوقـًا للبضائع الإنجليزية، ولا تنسوا أيضًا أنّ في عدن كثرة من الأجانب تفرض عليها مصالحها التجارية أنْ تتخذَ الإنجليزية لغة لها.*ثمَّ .. ماذا؟**إنّ إصدار صحف بالإنجليزية يخدمُ لغة الحكام الأجانب ويمكن لها في بلادنا ويسهم في إغراق لغتنا الأصيلة....ونحن نؤمن أنّ اللغة الإنجليزية وكل لغة حية، هي جزء من تراث المعرفة الإنسانية، ونؤمن بأهمية تعلمها ودراستها، على أنْ نفعلَ ذلك طواعية واختيارًا لا قسرًا وإرغامًا !!!ولكن ليس معنى ذلك أنْ نتبناها أو نصدر صحفنا بها !إنها قبل كل شيء لغة الدولة الأجنبية التي تحكمنا.ولم يحدث أنْ تخلى شعب محكوم عن لغته واستبدل بها لغة الحاكمين أو توسل بها لإفهامهم مطالبه.بل أنّ الشعوب المحكومة تعود إلى لغتها الأصلية حالما تسترد حريتها وتغدو سيدة نفسها.والذي أعطى اللغة الإنجليزية هذه الأهمية الكبرى هو التوسع الاستعماري.وها هو الاستعمار يتقلَّص ويجلو!.وها هي اللغة الإنجليزية تخرج من كل بلاد خرج منها الإنجليز.وفي السودان أصبحت اللغة العربية اللغة الرسمية.وفي الهند جددت فترة الانتقال لعودة البلاد إلى لغتها الأصلية.وفي كل مكان .. حدث ويحدث ذلك!إنّ الإدعاء بأنّ إصدار صحف بالإنجليزية يساعد على تعريف الحكام بأمانينا وآمالنا بواسطة (ترجمتها) وتوصيلها إليهم بلغتهم لإغراضهم بالاطلاع عليها واستثارة اهتمامهم بها.. ذلك الادعاء العجيب لا يستند إلى منطق مكين.بل على عكس ذلك.. يجب أنْ نستعمل لغتنا العربية في كل مجلى من مجالي الحياة وفي كل حقل من حقول الثقافة والنشر.وهكذا نعيد للغتنا العربية اعتبارها وتمكن لها في الأرض ونفرضها على الحكام فرضًا.وخلال ذلك تصل أصواتنا إلى مسامع الحكام قوية هادرة فصيحة لا “مترجمة” خافتة!!وأنا أشكُ كثيرًا في قدرة أية صحيفة محلية تصدر بالإنجليزية على حمل عبء التعبير عن حقوق الشعب تعبيرًا صادقًا أمينًا كاملاً.إنّها – على أي حال – لن تكون إلا معبرة عن وجهة نظر خاصة هي وجهة نظر صاحبها، وعن سياسة محددة معينة هي سياسة الصحيفة نفسها.وليس لمثل هذه الصحيفة أنْ تدعي تمثيل الشعب والتعبير الأمين عن إرادته.ولم تكتفِ الزميلة الإنجليزية “الريكوردر” بأنْ تسمي تعليقات الكاتب “واقعي” مرتجلة ومهيجة.. مهيجة لشعور مَنْ؟! ولكنها تتخلى فجأة عن هذه اللهجة الرسمية وتنطلق مسيحًا جديدًا يبشرُ بالإخاء الإنساني ويعظ الناس بلغته الإنجليزية قائلاً :(ويجبُ أنْ يُقالَ إنّ المواطنة المبنية على اندماج كامل للمصالح، هي السبيل الوحيد المأمون إلى النضج السياسي لا المواطنة المبنية على العنصرية الضيقة الأفق).فهل وعيت ما يعظنا به السيد المسيح الجديد؟ أنّه يريد منا أنْ نتخلى عن عصبيتنا العربية وتغمر الأجناس الأخرى التي تعيش بيننا بحبنا وفيض عطفنا حتى لو كانت دخيلة وباقية هنا على رغم أنوفنا وحتى لو كانت لنا لغة وحرية ضائعة وكرامة مهدرة. لا .. يا سيدي المسيح !لا نستطيع اليوم أنْ نستجيب لدعوتك المرسلة بالإنجليزية.لا نستطيع أن نحب من يكرهنا ويمقتنا.ولا نستطيع أن نؤاخي من يفرض نفسه علينا ويدخل إلى بلادنا بمشيئة الآخرين!ولا نستطيع أنْ نمنح محبتنا لمن يستغلنا ويمتص دماءنا ويبني سعادته على أنقاض بؤسنا وشقائنا.وتلك المصالح المختلطة التي تريدنا – يا سيدي المسيح – أن نبني على أساسها المواطنة المنشودة، إنّما هي مصالح متعارضة متناقضة ينعدم بين أصحابها التكافؤ والتراضي.والإنسانية التي تدعونا إلى اعتناقها.. لا نستطيع أن ندخل في رحابها قبل أنْ نكون قوميين وقبل أنْ نتمتع بشروط قوميتنا كاملة.إننا أشد شوقـًا وحنينًا من السيد المسيح الجديد إلى تحقيق تعاليمه الإنسانية.وأشد إيمانـًا منه بيوم آتٍ لا ريب فيه يندمج فيه البشر في وحدة إنسانية متماسكة.*ولكن متى ؟** يوم ينتهي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.ويوم لا يكون هناك سيد ومسود. وشعوب محكومة ودول أجنبية حاكمة.ويوم لا تكون هناك سياسة مرسومة موجهة ضد عروبتنا وكياننا القومي.ويوم تزول سياسة توطين وتغليب الأقليات الداخلية على الشعوب الأصلية.ويوم تتلاشى مصالح القلة الجشعة التي تطغي على مصالح الأغلبية الساحقة وتحركها وفقـًا لمشيئتها.وبكلمةٍ واحدةٍ.. يوم تنقرض جميع أشكال الاستعباد والاستغلال وتحل محلها صورة المجتمعات الإنسانية المتضامنة المؤتلفة المتساوية.هذه هي عقيدتنا.ولتقولوا عنا إننا عنصريون.. ومتطرفون مكابرون.. كما قالها (الريكوردر) في عددها الأخير نفسه. قالها لنا ولكل من لم يسمِ قرار انتخابات المجلس التشريعي الهزيل (فاتحة لعهد جديد في تطور المستعمرة الدستوري) على حد تعبير (الريكوردر) نفسها.قولوا ما شئتم أو ما شاءت لكم أهواؤكم والتزاماتكم الخاصة.ولكن لا تتحدثوا عن (السبيل الوحيد المأمون إلى النضج السياسي) فلن تجدوا وطنيًا واحدًا يسلك ذلك السبيل .. ولو خاطبتموه بلغات العالم أجمع.