احتفل شعبنا يوم الاثنين الماضي الموافق 22 مايو 2006 بالعيد الوطني السادس عشر للجمهورية اليمنية الموحدة ، وبقدر ما استقطبت التحضيرات الواسعة لاستقبال هذا العيد والاحتفال به اهتماما ملموسا من قبل وسائل الاعلام الرسمية باتجاه ابراز الوجه الجديد للوطن الموحد بعد 16 عاما من العمل والبناء والتنمية الشاملة ، وهي فترة بسيطة وقصيرة بحسابات الزمن لكنها كبيرة في حسابات التاريخ والا نجاز بحسب قول الرئيس علي عبدالله صالح في خطابه الذي وجهه الى الشعب اليمني بهذه المناسبة المجيدة ، بقدر ما استقطبت ايضا اهتمام صحافة احزاب المعارضة المنضوية في اطار (( اللقاء المشترك )) والى جانبها بعض الصحف المستقلة التي تدور في فلكها ــ هذه الايام ــ حيث تميزت مشاركة هذه الصحف في استقبال العيد الوطني السادس عشر بخطاب سياسي واعلامي يستهدف اثارة النعرات المناطقية وتحريض ابناء المحافظات الجنوبية والشرقية ضد ابناء المحافظات الشمالية ، والسعي لتلفيق وعي مشوه لقضية الوحدة اليمنية من خلال حملات اعلامية منظمة تفتقد القدرة على التمييز بين الخطوط والظلال والألوان التي تتداخل في مشهد ازمات وانقسامات وتجنحات الحياة الداخلية المأزومة لأحزاب المعارضة التي تشترك في انتمائها لمشاريع بالية وطرائق تفكير قديمة ، بل تجاوزت إصابتها بمرض عمى الألوان الى السقوط في اللاوعي ، وما يترتب على ذلك من اغتراب عن الواقع ، ونزوع الى تغييب العقل وممارسة الوصاية على التاريخ وإدمان على تعاطي الأوهام!! قرأنا في بعض هذه الصحف كلاما سخيفا عن زمن الوحدة والاحتفال بعيد تحقيقها الذي اصبح عيدا وطنيا متوجا بانجازات كبيرة لاينكرها الا مكابر ، ولا يعجز عن رؤيتها سوى حملة النظارات السوداء. لكن اسخف ما قرأناه في بعض هذه الصحف مقالات مهووسة صيغت باقلام حفنة من الكتاب المجاذيب والمساطيل الذين وجدوا في التحضيرات لاستقبال العيد الوطني السادس عشر للجمهورية اليمنية الموحدة مناسبة للحديث عن ما يسمى "حق تقرير المصير " للجنوب بما هو واحد من الخيارات المطروحة للخروج من المأزق الراهن لأحزاب المعارضة المنضوية في ما يسمى (( اللقاء المشترك )) .. بمعنى ان الإنتحار السياسي والأخلاقي خيار مطروح أمام هذه الأحزاب او بعضها للخروج من هذا المأزق ، وهو انتحار ــ بامتياز ــ تعود جذوره الى إرث ثقافة الإلغاء والإقصاء التي أدخلت ضحاياها في نفق مظلم يعكس هشاشة النظام القيمي الذي يؤطر الممارسة السياسية في سياقات فكرية وأخلاقية ضحلة !!حين يكون النظام القيمي هشاً ، تكون مخرجاته من ذلك الطراز الذي تضيع فيه الحدود بين الثوابت والمتغيرات ، ويتحول من خلاله رفاق الأمس الى فرق وشيع واجنحة تتبارى في التسابق على اغتيال المبادئ ، والإسراف في الفصل بين السياسة والأخلاق ، وصولاً الى العبث بالإنسان والعدوان على التاريخ والتفريط بالثوابت والتضحية بالحقيقة . لا نعرف بالضبط ما هو " تقرير المصير " الذي قرأنا عنــه مؤخرا في بعض الصحف والمواقع الاليكترونية الحزبية والمستقلة المعارضة ، وما هي محدداته ومقوماته في الواقع والتاريخ والجغرافيا ؟ .. وبالذات تاريخ الحزب الإشتراكي اليمني الذي كان يحتكر لنفسه في ادبياته ووثائقه صفة " الوريث الشرعي والامتداد المتطور لنضال الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة " !!؟؟ولا نفهم أيضاً ــ وسط تهافت المراهنات على مشاريع امبريالية قادمة لتعديل الخرائط التي صاغها الإستعمار في الحرب العالمية الأولى ، ورسمها على الأرض في العالم العربي بعد الحرب ــ علاقة الواهمين في احزاب (( اللقاء المشترك )) بإمكانية العودة الى صناعة الخرائط الجيوسياسية ، من خلال التعويل على دور مفترض للقوى الأجنبية في تعديل الجغرافيا السياسية للوطن اليمني وشبه الجزيرة العربية والخليج والعالم العربي عموما ً ، مثلما راهنوا قبل ذلك ــ وتحديدا ً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م ــ على ترشيح هذا الوطن للضربة العسكرية الأميركية ، من خلال التسريبات الإعلامية والتحريض بكل الوسائل غير الأخلاقية لإقناع " الثور الأميركي الهائج " بإدراج اليمن الموحد ضمن قائمة الدول التي تأوي الإرهاب بعد افغانسـتـان !! وحين فشلت مراهناتهم بسبب حكمة وحرص قيادة هذا البلد على تجنيب الوطن والشعب مخاطر محتملة قد تلحق الأذى والضرر بالسيادة الوطنية والاستقلال والوحدة والأمن والإستقرار ، تحولوا الى التشكيك داخليا بتعاون اليمن مع الدول الشقيقة والمجتمع الدولي في مجال مكافحة الارهاب وملاحقة مرتكبيه تطبيقا لقرارات الشرعية الدولية ، وشنوا حملة تضامنية مع المتهمين الذين تمت احالتهم الى القضاء ، الموقوفين على ذمة التحقيق في تهم منسوبة اليهم بارتكاب جرائم ارهابية ' وكان الهدف من تلك الحملات الداخلية هو ممارسة أرخص أشكال الضغوط على الحكومة اليمنية لاجبارها على وقف التعاون مع المجتمع الدولي في مجال مكافحة الارهاب ، وصولا الى إخراج اليمن من المنظومة الدولية المناهضة للإرهاب ، كيما يقتنع العالم ــ بعد ذلك ــ بضرورة إدراجها ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب ، وما يترتب على ذلك من عقوبات دولية تؤدي الى اسقاط النظام وافساح الطريق امام المعارضة للوصول الى السلطة على غرار ما حدث في صربيا و افغانستان والعراق . وبوسع كل من يعود الى ارشيف صحف احزاب »اللقاء المشترك« ان يكتشف التقلب الفاضح في مواقفها ازاء الارهاب ، حيث كانت تعارض سياسة الحكومة اليمنية المناهضة ضد الارهاب بعد احداث 11 سبتمبر، وتدبج المقالات والتقارير المتعاطفة مع تنظيم ( القاعدة ) وأسامة بن لادن ، وتشن الحملات المثيرة للكراهية ضد الولايات المتحدة الاميركية والغرب عموما ، وتحرض بمختلف الوسائل الاعلامية والدعائية ضد التعاون الدولي المناهض للارهاب.. ' ثم تحولت عشية التحضير للإنتخابات البرلمانية عام 2003 الى التظاهر بمناهضة الارهاب ، والتهافت على برامج نشر الديمقراطية والإصلاحات السياسية في الشرق الاوسط ، التي تتبناها الولايات المتحدة الاميركية ودول الاتحاد الاوروبي !!ينسى هؤلاء أن الخارطة الراهنة لليمن الموحد لم تصنعها القوى الأجنبية والإرادات الخارجية على نحو ما حدث بعد الحرب العالمية الاولى والثانية في سايكس بيكو او يالطا او ميونيخ ، بل جاءت ثمرة لنضال طويل اجترحه الشعب اليمني وقواه الوطنية ضد الإستبداد الإمامي والإستعمار البريطاني والنظام الأنجلوسلاطيني .. وينسون ان شعبنا قدم قوافل الشهداء واسترخص التضحيات الجسيمة في كفاحه الطويل من أجل الحرية والإستقلال واستعادة الوجه الشرعي للوطن اليمني الواحد . على هذا الطريق صاغت الحركة الوطنية اليمنية ثقافة الوحدة في مواجهة ثقافة التجزئة والإستلاب ، فيما كان الدفاع عن الهوية اليمنية في مواجهة مشاريع الهويات البديلة محور كل المعارك التي خاضها شعبنا وطلائعه الوطنية في مختلف الميادين السياسية والفكرية والثقافية . في تاريخ العالم المعاصر ارتبط حق تقرير المصير بإرادة الشعوب في الإستقلال لا عن الاستعمار بل عن هوية مفروضة عليها بالقوة في اطار دولة اتحادية متعددة القوميات والأعراق .. بيد أن الطريق الحاسم لبلوغ هذا الهدف كان يتم من خلال السعي للحصول على تأييد دولي ودعم أجنبي لهذا الحق . في الحالة اليمنية المعاصرة عرفت بلادنا هذا الشعار في الأربعينات على يد الجمعية العدنية التي كانت تسعى للدفاع عن عروبة عدن والتحرر من هيمنة النخب والجاليات الأجنبية لدول الكومنولث على الوظائف الإدارية والفعاليات الإقتصادية والتجارية في المدينة .. لكن شعار عدن للعدنيين الذي جسد مفهوم الجمعية العدنية لحق تقرير المصير أخطأ الزمان والمكــان ، حيث جوبه بمقاومة شعبية عارمة من قبل الحركة الوطنية اليمنية التي كانت تطالب بالحق في الاستقلال عن الاستعمار ، والحق في استعادة الهوية اليمنية المسلوبة ، لا بتقرير مصير عدن خارج هويتها الوطنية اليمنية !! نجح الوطنيون اليمنيون ــ بفضل عدالة قضيتهم وصدق إيمانهم بحقيقة الوطن اليمني الواحــد ، في إلحاق الهزيمة بشعار حق عدن في تقرير المصير ، والذي كان يراد له ان يكون مدخلاً لطمس هويتها اليمنية ، ومنطلقاً لشعارات مماثلة لتقرير " مصائر " السلطنات والإمارات المتعاهدة مع الإستعمار البريطاني ، الهدف منها في نهاية المطاف هو سلب الهوية الوطنية اليمنية وتلفيق هويات بديلة زائفة !! ثمة تاريخ طويل وزاخر بالمآثر الكفاحية العظيمة التي اجترحها السياسيون و المثقفون والأدباء والكتاب والفنانون والطلاَّب والعمال والمزارعون والتجار وعلماء الدين الوطنيون في مجرى الدفاع عن الهوية الوطنية اليمنية ، والتطلع الى محو و إلغاء الخارطة التي فرضها المستعمرون والأئمة والسلاطين ، واستبدالها بخارطة الحلم الوطني التي رسمت معالمها الثورة اليمنية ( 26 سبتمبر ـ 14 اكتوبر ) ، وتتوّجت بإنتزاع الإستقلال عام 1967م ، واستعادة الوجه الشرعي للوطن اليمني الواحد يوم الثاني والعشرين من مايو 1990 العظيم . كان هذا التاريخ من صنع الشعب اليمني وطلائعه الوطنية ، ولم يكن موروثاً عن خرائط جيوسياسية من صنع إرادات دولية وإتفاقات اسنعمارية.. أما الذين يراهنون كثيراً على ماتردده وسائل الإعلام العالمية هذه الأيام حول مشاريع امبريالية لإعادة النظر في تلك الخرائط ، فانهم يخطئون في العنوان حين يتوهمون بأن اليمن يصلح لمثل هذه المشاريع .. لأن خارطة الجمهورية اليمنية الموحدة صـُـنعت في اليمن بإرادة الشعب اليمني الحرة ، وعــُّـمدت بدماء الشهداء الأماجد من أبنائه الميـّـامين الذين ناضلوا في سبيل الحرية والإستقلال والوحدة . حين يقرأ المرء كلاماً منحطاً كهذا الذي طالعتنا به بعض الصحف المعارضة يدرك مدى السقوط السياسي والأخلاقي لهذا النمط من السياسيين الفاشلين في مستنقع اللاوعي ، واغترابهم عن الواقع والتاريخ ، وهروبهم المخزي من مواجهة الحقيقة ، إذْ يصعب على العقل الحي تعاطي شعارات مهترئة وأوهام مريضة بهدف إحياء أفكار خاسئة ومشاريع ميتة ولاتاريخية . انه مرض التعلق بأوهام وطوباويات ماضوية تهدر البعد التاريخي للزمن ، بإصرارها على العودة الى كهوف السياسات القديمة المندثرة ، والوهم بإمكانية إعادة تعريف الزمن من خلال إعادته الى نقطة سابقة في تاريخ قديم ، وإعادة الروح الى العظام الرميمة لشعارات ميتة مثل شعار " عدن للعدنيين " وشعار " لحج فوق الجميع " وشعار "حضرموت الكبرى " ، وغيرها من المشاريع التي حاولت الإختباء خلف شعار " حق تقرير المصير " ، ثم انتهت الى مزبلة التاريخ تحت ضربات كفاح الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة من اجل الحرية والإستقلال والوحدة .-------------------[c1]نقلاً عن / صحيفة "26 سبتمبر"
خارطة اليمن الموحد لم تُصنع في سايكس بيكو او يالطا
أخبار متعلقة