سد مأرب
محمد زكرياالملك الحميري معد يكرب يعفر أو يوسف أسأر يثأر والمعروف والمشهور في المصادر العربية الإسلامية باسم الملك ( ذي نواس ) لعب دوراً خطيراً على أحداث مسرح اليمن القديم . في عهد حكمه شهدت اليمن غزوتين الغزوة الأولى كانت بين سنتي 516م و 518م حيث قامت القوات الحبشية باحتلال اليمن ولكنها هزمت بسبب المقاومة العنيفة والشديدة الذي أبداها الملك ( ذي نواس ) والقبائل اليمنية الصعبة المراس التي ألتفت حوله ، أما الغزوة الثانية أو الحملة الثانية على اليمن كانت سنة 525م , والتي تشكلت من التحالف الحبشي البيزنطي وفيها وقعت أرض حمير(اليمن) تحت نفوذ القوى الأجنبية مدة 50 عاماً تقريباً , وفي عهد حكمه زلزل الرأي العام المسيحي زلزالاً عنيفا من جراء المحرقة التي أقامها للمسيحيين في نجران والتي تعرف بأصحاب الأخدود في القرآن الكريم .[c1]الأوضاع الداخلية والخارجية[/c]وفي الحملة الثانية على اليمن ، كانت الأوضاع الداخلية والخارجية قد تغيرت ضد الملك ( ذو نواس ) في الداخل بسبب بروز الصراع الحاد والعنيف الذي نشب بين الأقيال وهم زعماء القبائل اليمنية من جهة والملك ( ذي نواس ) من جهة أخرى بسبب تزايد الأولين لنفوذهم على الساحة السياسية اليمنية لكونهم ، كانوا القوة الضاربة في الجيش الحميري أو بتعبير آخر كانوا قوام الجيش الحميري ، وكان من جراء ذلك أن تمزق كيان الوحدة على أرض حمير مما سهل الأمور على البيزنطيين والأحباش اختراق جدار المقاومة و القضاء على الملك ( ذي نواس ) واحتلال أرض اليمن . وفيما يخص الأوضاع الخارجية ، فقد رأت كل من بيزنطة والحبشة أنّ الأوان قد حان للانقضاض على أرض حمير. وفي تلك الغزوة أعدت كل من بيزنطة والحبشة حملة عسكرية كبيرة بهدف محو الهوية اليمنية قضاءاً مبرماً أو بتعبير آخر القضاء على أية شكل من أشكال المقاومة ضدها . وبالفعل تحققت خطة البيزنطيين والأحباش في أرض حمير ( اليمن ) فاحتلوا اليمن حتى نهاية 575م أي أنهم سيطروا عليها نحو 50 عاماً عانت خلالها اليمن واليمنيين الأمرين. [c1]هل معد يكرب هو يوسف أسأر ؟ [/c]اضطربت الآراء حول اسم الملك الحميري هل معد يكرب يعفر هو يوسف أسأر يثأر ؟ . فبعض الباحثين ، يقول بما معناه : أنّ معد يكرب هو يوسف أسأر , وسبب ذلك الاختلاف هو أن ( يوسف ) كان اسمه معد يكرب قبل أنّ يتهوّد أي يدخل في الديانة اليهودية . ولقد كان ( يوسف ) هذا عندما اعتلى كرسي الحكم في اليمن كان نصرانياً واسمه معد يكرب . وهذا ما أكده الأستاذ الباحث حمود جعفر السقاف ، قائلاً : " من المؤكد أنّ معد يكرب يعفر ... هو نفسه يوسف أسأر / ذو نواس " . ويورد الأستاذ حمود السقاف أنّ الأسباب التي أكدت له أن معد يكرب هو ( يوسف ) أن المصادر النقشية تؤكد أنه في إبان الحملة الأولى ظهر اسمان لملكان قويين قاوما تلك الحملة الحبشية الأولى على أرض حمير ، ويعقب على ما قالته تلك المصادر النقشية ، قائلاً : " ... لا يمكن وجود ملكين قويين في اليمن في نفس الوقت وهو أمر غير مكن ، ولذلك فإن معد يكرب لا يمكن إلاّ أنّ يكون يوسف أسأر / ذو نَواس نفسه وذلك قبل تحوله إلى الديانة اليهودية والتسمِ باسم يوسف ، وهو اسم يهودي يقول الأخباريُون العرب أنه أطلقه على نفسه عند تهوُده " . والحقيقة أنّ حمود السقاف أورد خمسة أسباب تؤكد أنّ معد يكرب يعفر هو نفسه يوسف أسأر يثأر/ ذو نواس الذي كان ملكاً في " يونيه 516م - حسب قوله - . وفي موضع آخر يؤكد جعفر حمود عن سبب تسمية الملك باسم ( ذي نواس ) وهو " ... للدلالة على عودته إلى ديانة جدِه أبي كرب أسعد ( الكامل ) ، وهي الديانة اليهودية" . [c1]رأي مناقض [/c]ولكن هناك رأي مغاير يخالف رأي الأستاذ حمود السقاف حول أن اسم معد يكرب يعفر هو نفسه اسم يوسف أسأر ( ذو نواس ) . وذلك الرأي هو رأي الدكتورة أسمهان سعيد الجرو فهي تقول أنّ يوسف أسأر ( ذا نواس ) جاء بعد الملك معد يكرب يعفر والذي كان نصرانيا , وبعد أعتلى يوسف أسأر يثأر حكم اليمن بفترة من الوقت تحول من النصرانية إلى الديانة اليهودية . ولقد ذكرت اسمهان الجرو أن الأسباب الحقيقية وراء دخول ( ذو نواس ) إلى اليهودية هو التخلص من النفوذ البيزنطي المسيحي الحبشي الذي فرض هيمنته على الكثير من مناطق اليمن والتحكم بمصيرها . وهنا ربما كان مناسباً ، أنّ نقتبس كلام الدكتورة أسمهان الجرو حول تلك المسائل التي طرحناها قبل قليل كالآتي : " جاء بعد الملك ( معدي كرب ) ( 517م ) ، الملك " يوسف أسأر يثأر " ... الملك الذي لقب نفسه " يملك كل الشعوب " ، وأطلق عليه الإخباريون ( ذا نواس ) " . وتقول عن الانقلاب الذي قام به ( يوسف ) ضد ( معدي كرب ) بأنه بسبب اتجاهاته صوب بيزنطة كالأتي : " أنه وصل ( تقصد يوسف أسأر ) إلى الحكم نتيجة انقلاب قام به في حوالي عام ( 517م ) ، قضى خلاله على سلفه ( معدي كرب ) الذي انتهج سياسة موالية لبيزنطة ". [c1]من أسرة الملك معدي كرب[/c]وتشير أسمهان الجرو أنّ هناك رأي يقول أنّ الملك ( ذا نواس ) كان ينحدر من أسرة الملك معدي كرب ، وأنه وصل إلى قمة الحكم دون سفك الدماء , وكان في بداية حكمه نصرانياً . وفي هذا الصدد ، تقول : " ويرى فريق آخر ، أنه ينحدر من أسرة الملك النصراني " معدي كرب " بل و خلفه ( يوسف أسأر / ذا نواس ) في الحكم بعد موته ، ولم يثر عليه أو سلب منه السلطة ، فقد كان نصرانياً أيضاً في بداية عهده " وتواصل حديثها : " ما جاء به هذا الفريق يؤكد قول " محمد بن حبيب البغدادي " عن ( يوسف ) أو ( ذي نواس ) ، حيث يقول : " وملك بعد ( يقصد معدي كرب ) ثم تهوّد ، ودان باليهودية ودعا الناس إليها " . وتفسر الدكتورة أسمها الجرو سبب تسمية ( ذو نواس ) باسم ( يوسف ) ، حيث تقول : " أنه أعتلى العرش وهو يدين بالنصرانية ، ولعله بعد أن اعتنق الديانة اليوديّة أطلق على نفسه اسم ( يوسف ) . ونستخلص من كلام أسمهان الجرو الآتي : أنها تؤكد أنّ الملك ( يوسف ) أو ( ذا نواس ) ليس هو الملك ( معدي كرب) مثلما قال حمود السقاف , وهذا ما أكدته بما معناه : " أن الملك يوسف أسأر قام بانقلاب على الملك ( معدي كرب ) بسبب سياسته التي تميل نحو الدولة البيزنطية " وفي موضع آخر تذكر أنّ الملك ( يوسف ) أو ( ذا نواس ) ينحدر من أسرة الملك ( معدي كرب ) ، وأنه بعد موته تولى الحكم دون انقلاب أو سفك دماء أي أنه وصل إلى سدة الحكم بشكل سلمي . [c1]عداء صريح لبيزنطة [/c]ولقد قلنا سابقاً : أنّ ( ذا نواس ) أو ( يوسف ) اعتنق اليهودية بهدف التحرر من النفوذ البيزنطي المسيحي ، فعمد على محاربة كل من يوالي ويحالف بيزنطة وبالتالي وقف موقفاً عدائياً صريحاً من النصرانية أو المسيحية . وهذا ما أكدته الدكتورة أسمهان الجرو ، حيث تقول : " فبعد أن تهوّد الملك الحميري ( يوسف ) انتهج سياسة مغايرة لسياسة سلفه ( تقصد معدي كرب ) وأخذ يؤلب القبائل ويجمع شملها ، استعداداً لتحرير المناطق اليمنية من النفوذ الحبشي والمصالح البيزنطية ، فاستخدم القوة والشدة في معاملته مع التجار المسيحيين , وحلفاء الأحباش ، والقبائل اليمنية الموالية لهم ، كقبائل ( عك ) و ( الأشاعر ) بتهامة ، وبسبب تلك السياسة قل تعامل التجار البيزنطيين مع المواني اليمنية وتضرر كثير من اليمنيين تضرراً اقتصادياً كبيراً وخاصة من ارتبطت مصالحهم بتلك التجارة " . [c1]خصوم الملك ( ذو نواس )[/c]وتشير أسمهان الجرو إلى أهم المناطق أو المدن التي ناصبت الملك ( ذي نواس ) العداء " و هي أولاً " نجران : المركز التجاري والديني ، وملتقى الطرق التجارية التي تنطلق من ( نجران ) إلى الخليج العربي عبر وادي ( الدواسر) و ( اليمامة ) و ( البحرين ) ، وعبر ( نجران ) تأتي الطريق القادمة من ( صنعاء ) ، و ( مأرب ) ، و ( الجوف) والمتجهة إلى ( الشام ) ، وفي ( نجران ) توجد جاليات مسيحية متمركزة حول بيت العبادة الذي سمي بكعبة ( نجران ) " . وتمضي في حديثها ، قائلة : " ظفار : العاصمة الحميرية والتي سبق وأنّ احتلها الأحباش وطردهم الملك الحمير ( ملكي كرب يهأمن ) ، إلاّ أنهم عادوا في وقت متأخر في عهد ( معدي كرب ) بحجة التبشير بالنصرانية وحماية كنائسها . ثالثاً : المناطق الساحلية الغربية ( المناطق التهامية ) وتقطنها أهم القبائل الموالية للأحباش وهم : ( الأشاعر) و ( الركب ) و ( عك ) و ( فرسان ) و الواقعة أراضيهم على امتداد الساحل المقابل للحبشة ، وقد تمكن الأحباش منذ القرن الأول الميلادي من أيجاد موطأ قدم لهم في الإقليم الساحلي ، و ظلت تلك القبائل وفيه لهم بحكم مصالحها الاقتصادية ، وبحكم الجوار الجغرافي خاصة وأن الأحباش امتزجوا بسكان ذلك الإقليم لقرون لا يستهان بها ، كما أسسوا لهم مستوطنات وبنوا فيها الكنائس ومن هذا كانوا ينطلقون إلى المناطق الداخلية كلما سنحت لهم الفرصة بذلك " . [c1]" حلم طال انتظاره " [/c] ونستخلص من ذلك أنّ الملك يوسف أسأر ( ذا نواس ) كان في موقف داخلي خطير وصعب ومعقد فأعداءه في الداخل يحيطون به ويتربصون به الدوائر ولهم نفوذاً قوياً في داخل مملكته وهي نجران ، وظفار والتي كانت عاصمة حمير ( اليمن ) علاوة على المناطق الساحلية التي ضمت عدد غير قليل من القبائل التهامية الموالية لأعدائه الأحباش وفضلاً عن ذلك أنّ المسيحية كانت قد انتشرت انتشاراً واسعاً في تلك المناطق المعادية للملك يوسف / ذا نواس . وقد كانت تلك المناطق التهامية نقطة انطلاق للأحباش للتوغل في داخل اليمن كلما سنحت لهم الفرصة وبتعبير آخر عندما تضعف القبضة المركزية على تلك المناطق التهامية يتحرك الأحباش إلى داخل اليمن . وكان من جراء أساليب العنف والقوة للمناصرين للدولة البيزنطية والحبشية ، أن لجأ حلفاءهما إليهما لمساعدتهما ضد سياسة ( ذو نواس ) العدائية لهم . وهذا ما أكدته الدكتورة اسمهان جرو ، قائلة : " لقد كان لسياسة العداء التي انتهجا ( يوسف ) ضدهم رد فعل قوي ، عند لجأ المتضررون من تلك السياسة ( البيزنطية ) لمساعدتهم في وضع حد لتلك المعاملة. فوجَهت ( بيزنطة ) نظرها صوب ( الحبشة ) التي وجدت في تلك الدعوة سبيلاً لتحقيق حلم طال انتظاره ، فرحبت بالفكرة دون تردد " .[c1]عواقب سياسية وخيمة[/c]والحقيقة أنّ الملك الحميري ( يوسف ) أو ( ذا نواس ) وضع نصب عينيه تحرير أرض حمير من النفوذ البيزنطي ولكنه لم يقدر العواقب السياسية الوخيمة إزاء ذلك العداء الواضح والصريح للدولة البيزنطية القوية ومن جهة أخرى أنّ جبهته الداخلية لم تكن لصالحه نظراً أنّ العديد من الأقاليم والمدن ، كانت مناوئة ضد سياسته - كما قلنا سابقاً - . وفي الحقيقة لقد استخدم ( ذي نواس ) العنف والشدة ضد التجار المسيحيين الذين كانوا يمثلون عصب الحياة التجارية في الموانئ اليمنية ، فترتب على ذلك أن فر هؤلاء التجار المسيحيين من تلك الموانئ ، فأثر تأثيراً سلبياً على الحياة الاقتصادية في عهد حكمه , وكان من الطبيعي أن تفقد مملكته موارد اقتصادية هائلة من جراء سياسته العدائية والعنيفة ضد هؤلاء التجار - كما أسلفنا - فأثر بالتالي على قوته السياسية والعسكرية تأثيراً خطيراً . وهذا ما أكدته سير الأحداث سواء في الحملة الحبشية الأولى على أرض حمير سنة 517أو سنة 518م والحملة الثانية سنة 525م . [c1]الرومان وثأرهم القديم[/c]والحقيقة أنّ الإمبراطورية البيزنطية الرومانية ، كان لديها ثأر قديم مع اليمن يعود إلى عهد أغسطس قيصر روما وتحديداً سنة ( 24ق . م ) الذي أرسل حملة عسكرية ضخمة إلى اليمن للسيطرة على منافذ ومحطات الطرق التجارية البرية والبحرية في جنوب غرب الجزيرة العربية ولكن تلك الحملة الرومانية الكبيرة باءت بالفشل الذريع على أرض اليمن. ونورد ما ذكره الدكتور سيد مصطفى سالم حول تلك الحملة الرومانية على اليمن ، وأسباب فشلها ، حيث يقول : " وقد عاصر دخول الرومان مصر ازدهار دولة الحميريين في اليمن ، وسيطرتها على الطرق بالتجارية البرية والبحرية في جنوب غرب الجزيرة العربية ، لذلك قرر أغسطس - قيصر روما - إرسال آليوس جاليوس - ثاني ولاته في مصر - على رأس حملة إلى اليمن ، وقد حشد هذا الوالي عشرة آلاف جندي وبعض القوات المساعدة من مصر ، وحشد الملك النبطي - حليف الرومان حينذاك - قوة أخرى على رأسهم بعض الأدلاء ووزيره الخبيث - على حد قول سترابون مؤرخ الحملة - لأن الحملة تعرضت للغدر والخيانة عدة مرات " . وكيفما كان الأمر ، فإن الرومان كان يرادوهم حلم منذ زمن بعيد السيطرة على الطرق التجارية البرية والبحرية في أرض حمير ولكن تلك الحملة الرومانية الضخمة غرقت في رمال المقاومة اليمنية الشديدة سنة ( 24ق . م ) . حقيقة أنّ تلك الحملة الرومانية فشلت في اليمن فشلاً ذريعاً - كما قلنا سابقاً - ولكن أظهرت قوة الإمبراطورية الرومانية أمام اليمنيين والذي وقعوا في حبها أي في حب الرومان - كما ذكر الدكتور سيد الناصري - ومن المحتمل أنه يقصد أنّ اليمنيين وقعوا في حب الرومان هو أنّهم أعجبوا بتلك الإمبراطورية الرومانية القوية . وربما حاول بعض التجار اليمنيين الاستفادة من الرومان وأنّ يقيموا علاقات اقتصادية معهم .[c1]اليمنيون والأنباط[/c]ويمضي في حديثه : " فقد اشتركت القوات النبطية في هذه الحملة على مضض ، إذ من المعروف أنّ الأنباط كانوا يتعاونون مع اليمنيين منذ زمن بعيد لاحتكار تجارة البحر الأحمر ، كما أنّ هذا الوزير وجنوده كانوا يعلمون أنّ هدف هذه الحملة هو سيطرة الرومان الكاملة على تجارة البحر الأحمر وحرمانهم واليمنيين من مصدر ثرائهم " . وكيفما كان الأمر ، أنّ ( ذا نواس ) - كما قلنا سابقاً - أعتنق الديانة اليهوّدية أو تهوّد بسبب رغبته من الخروج من معطف الدولة البيزنطية التي ، كان لها اليد الطولى في أرض حمير والتي كانت تثير المشاكل في الكثير من الأقاليم والمدن اليمنية الهامة وهي نجران ، ظفار ، والمناطق الساحلية الذي سيطر عليها الأحباش المسيحيين حلفاء البيزنطيين من خلال إقامة المستعمرات ، وامتزاجهم بسكانها , وصار لهم موطأ قدم ثابتة في تلك المناطق الساحلية والتي استغلوها سواء في الحملة الأولى أو الحملة الثانية . [c1]ذو نواس والفرس[/c]وأما فيما يخص بإيمان ( ذي نواس ) بالديانة اليهودية ، فهو في اعتقادنا لم يكن يؤمن بها من قريب أو بعيد , وإنما دخوله في الديانة اليهوّدية هو في - رأينا - رمز من التخلص من النفوذ السياسي البيزنطي ودليل ذلك تحالفه مع الفرس المجوس ( عبدة النار ) لكونها الخصم اللدود للدولة البيزنطية المسيحية فوجه وجهه صوب الإمبراطورية الفارسية مستغلاً العداء التاريخي المستحكم بينها وبين الإمبراطورية البيزنطية . وهذا ما أكدته الدكتورة اسمهان الجرو ، قائلة : " ويبدو أنّ ( يوسف ) بدأ في البحث عن حليف يمكن الاعتماد عليه عند الضرورة ، فوجه نظره صوب ( فارس ) العدو التاريخي ( البيزنطية ) مستغلاً الأحوال المضطربة بينهما " . وفي واقع الأمر ، أنّ الفرس وجدوا أن التحالف مع اليهود والمعارضين الآخرين للدولة البيزنطية سيجعل لهم نفوذ في شبه الجزيرة العربية . وهذا ما أكدته أسمها الجرو ، حيث تقول : " أمّا الفرس فكانوا يفضلون التعامل مع اليهود ، والمذاهب الدينية المناهضة للروم مثل ( النسطورية ) للتحريض ضد بيزنطة وتأجيج المعارضة عليها ، ويتحينون الفرصة الملائمة لمدّ نفوذهم إلى ذلك الجزء البعيد من شبه الجزيرة العربية " . ومن المرجح أنّ دخول ( ذا نواس ) في الديانة اليهودية شجع الفرس على التعاون معه ضد خصومه السياسيين في الداخل وأعدائه في الخارج وهم البيزنطيين . [c1]الفرس يتخلون عنه [/c]وفي الحقيقة أنّ الملك الحميري ( ذا نواس ) لم يكن له خيار سوى التحالف مع الإمبراطورية الفارسية بهدف مساعدته في تحقيق أهدافه السياسية وهي التخلص من النفوذ الحبشي البيزنطي الذي جثم على اليمن منذ فترة طويلة . وظن ذلك الملك الشاب ( ذو نواس ) والذي نعته ابن هشام بأنه كان شاباً يتقد ذكاءً بأن تحالفه مع الفرس سيكون درعاً لحمايته من الأخطار الحبشية البيزنطية ولكنه أكتشف الحقيقة المُرة بعد فوات الأوان أو بتعبير آخر أنه لم يحسب حساب مصالح الإمبراطوريتين العظيمين الرومان والفرس اللتين فرضت عليهما الأوضاع السياسية الدولية إقامة السلام بينهما , وكان من جراء ذلك أن تخلى الفرس عن الملك الشاب ( ذي نواس ) وتركته وحيداً في وسط الأمواج السياسية العاتية يلقى مصيره مثلما حدث مع الحملة الحبشية الأولى على اليمن سنة 518م ، والحملة الثانية سنة 525م. [c1]وحيداً في وسط المعركة[/c]وهذا ما أكدته الدكتور اسمهان الجرو الذي أشارت إلى حادثة الأخدود التي وقعت سنة 516م - حسب قول حمود السقاف - حيث تعرض فيها المسيحيين إلى التعذيب الغليظ بالحرق بأوامر من الملك ( ذي نواس ) ، فاستغلت بيزنطة تلك الحادثة فهيجت عليه الرأي العام المسيحي من ناحية ووقعت معاهدة السلام مع الفرس سنة ( 524م ) من ناحية أخرى وبذلك حققت الدبلوماسية البيزنطية نصراً رائعا على ملك حمير أو بتعبير آخر أنها مهدت السبل الاستيلاء على أرض حمير ( اليمن ) والتحكم بطرقه التجارية البرية والبحرية دبلوماسياً أولاً وعندما تهيئة الأجواء السياسية الداخلية في اليمن والدولية تتخذ الوسائل والسبل العسكرية لاحتلال اليمن . ولقد حاول الملك ( ذو نواس ) أن يوضح للفرس بأنه في أشد الحاجة إليهم ولكنهم خذلوه وأعرضوا عنه فصار وحيداً في وسط المعركة بين أنياب التحالف الحبشي البيزنطي . فقد تخلى عنه المنذر حليف الفرس ، وتخلى عنه أيضاً الفرس عن مد يد العون له ضد الهجمة الحبشية البيزنطية الشرسة على أرض حمير . وفي هذا الصدد ، تقول الدكتورة أسمها الجرو : " في الوقت الذي كان ( يوسف ) بأمس الحاجة لمثل ذلك الدعم ، بل كان يرى في ( فارس ) العدو التاريخي لبيزنطة ، والسّند الدولي لسياسته ، لكن بيزنطة تمكّنت من عزل الملك اليمني عن القوى الوحيدة المؤثرة والتي كانت بالإمكان أنّ تسانده . وفي الوقت ذاته نجح المبعوث ( البيزنطي ) أيضاً في أنّ يعقد معاهدة سلام مع ( فارس ) ، كان ذلك في شهر فبراير من عام ( 524م ) " أي قبل إرسال الحملة الثانية على اليمن. [c1]هل هي حركة وطنية ؟[/c]والحقيقة أنّ الملك الحميري الشاب ( ذا نواس ) كان يهدف - كما أشرنا في السابق - بالتخلص من النفوذ الحبشي البيزنطي الذي تغلغل في كل مكان من مناطق وأقاليم اليمن مثلما حدث في نجران ، ظفار ، والمناطق الساحلية التهامية , وبالرغم من خطورة الأوضاع السياسية الداخلية والخارجية التي كانت تحيط به . فقد تجرأ أن يعادي الدولة البيزنطية . ولذلك رأى الكثير من الكتاب والمؤرخين أنّ حركة ( ذا نواس ) حركة وطنية تهدف في المقام الأول تحرير اليمن من قيود الحبشة وبيزنطة ومنهم الأستاذ أحمد أمين ، حيث قال : " ويظن بعض المؤرخين أنّ حركة ذي نواس هذه كانت حركة وطنية ، ذلك أنّ نصارى نجران كانوا على ولاء مع الحبشة , وكانت الحبشة تعد حامية النصرانية في نجران ، وقد اتخذت النصرانية وسيلة للتدخل في شئون اليمن ، فأراد ذو نواس وقومه محو هذا النفوذ الحبشي ؛ ولذلك لما قَتل ذو نواس نصارى نجران استنجد بقيتهم بالحبشة فانجدوهم " . [c1]" النية المبيتة "[/c]والحقيقة أنّ حادثة الأخدود التي وقعت في نجران على يد الملك ذي نواس بإحراق نصارى نجران لم تكن السبب الرئيس في إقدام التحالف الحبشي البيزنطي في الاستيلاء على أرض حمير ( اليمن ) وتحطيم وتدمير قوة الملك الحميري ( ذي نواس ) . فقد كانت هناك نية مبيته من ِقبل التحالف أو المحور الحبشي البيزنطي في ضرب الملك الشاب الحميري واحتلال أراضيه قبل حادثة الأخدود . وهذا ما أكده الأستاذ حمود السقاف ، قائلاً : " ... يبدو أنّ الإعداد لها ( أي الحملة الحبشية الثانية ) بدأت في مطلع الربيع من عام 524م ، وأنّ الإعداد لها بدأ عام 522م ، كما يبدو أنّ الإعداد لهذه الحملة بدأ قبل تعذيب نصارى نجران الذي حدث في عام 523م ، مما يوحي بأن الهدف من هذه الحملة لم يكن خالصاً لوجه العقيدة ، بل كانت له أهداف سياسية واقتصادية ، أولها السيطرة على طرق التجارية البرية والبحرية لصالح البيزنطيين وأتباعهم الأحباش " . [c1]رمز للمقاومة[/c]لقد أوضحت الحملة الحبشية الأولى على اليمن سنة 518م مدى التضامن القوي بين القبائل اليمنية والملك ( ذو نواس ) في مواجهة الغزو الحبشي ، حقيقة كانت هناك قوى سياسية محلية ارتبطت مصالحها بمصالح المحور الحبشي البيزنطي ولكنها لم تكن من القوة الكافية التي يمكن أنّ تؤثر في سير المعركة أو ترجح كفة الميزان لصالح الغزو الأجنبي على أرض حمير ( اليمن ) . أما القوى السياسية اليمنية الأصيلة التي ألتفت حول الملك يوسف / ذو نواس ، فكانت من القوة التي غلبت كفة الميزان العسكري لصالح الملك الحميري . ويبدو أن سبب ذلك الحماس المنقطع النظير لتلك القوى المحلية هو إيمانها العميق بأن الملك ذا نواس يمثل رمز المقاومة ، والمنقذ من التدخل والغزو الأجنبي الذي يهدد أرضهم اليمن وحياتهم ، وهويتهم الوطنية ولذلك السبب انتصر اليمنيين بقيادة الملك الشاب المتقد ذكاء على القوات الحبشية التي كانت أقوى عدداً وعدة من الجيش اليمني المكوّن من الأقيال أي من زعماء القبائل اليمنية . وهذا ما أكدته الدكتورة أسمهان الجرو ، قائلة : " بأن قوات ( شرحئيل ) - قائد قوات الملك ( ذا نواس ) - لم تواجه أية مقاومة على امتداد الطريق من ( المخا ) إلى ( كوكبان ) وحتى ( نجران ) " . وتضيف ، قائلة : " وتؤكد أسماء القبائل التي حاربت إلى جانب الملك الحميري ، أنّ سطوته كانت قويّة ، وأنّ مؤيديه كانوا كثيرين ، وربما وجدوا فيه المنقذ والخلاص من التبعية الحبشية ، أمّا معارضوه فكانوا محدودين يتمركزون في مناطق - سبق أنّ أشرنا إليها - لها ارتباط قوي بالمصالح الاقتصادية الحبشية والبيزنطية " . وعلى أية حال ، فشلت الحملة الحبشية الأولى على اليمن . وحقق الملك الحميري على أرض حمير ( اليمن ) انتصاراً باهراً ورائعاً وصار يمثل رمز المقاومة والمنقذ والمخلص من النفوذ الأجنبي - كما أسلفنا - .[c1]أخطاءه الفادحة[/c]وفي سنة 525 م ، تبدأ صفحة جديدة من صفحات تاريخ اليمن القديم ، ولكنها كانت صفحة مليئة بالدماء ، والحزن ، والدموع رضخت فيها أرض حمير أرض الحضارة العظيمة ردحاً من الزمن تحت الاحتلال الحبشي البيزنطي . فقد تمكن المحور الحبشي البيزنطي في الحملة الثانية على اليمن في أضعاف المقاومة اليمنية المتمثلة بهزيمة الملك الحميري ( ذي نواس ) بمساعدة الطابور الخامس أي بمساعدة خصومه السياسيين المتضررين من سياسته القمعية . والحقيقة أنّ الملك يوسف / ذا نواس وقع في أخطاء جسيمة وفادحة و هي أنه ترك هوة الخلاف بينه وبين الأقيال زعماء القبائل والعشائر تتسع , وكان في إمكانه أنّ يحلها من خلال إبداء الاحترام والتقدير الكبيرين لهم ، وأنّ لديهم الحظوة والمكانة الكبيرة في دولته نظراً لدورهم الخطير في استقرار أركان مملكته . وهذا ما أكدته أسمهان الجرو ، قائلة : " ويرجع بعض المؤرخين بأن هناك خلافاً خطيراً برز بين الملك الحميري ( يوسف ) ، وقادته العسكريين ( اليزنيين ) ففي - اعتقادهم - أنّ هذه الفئة قد غدت بعد غزوات الملك الحميري ، قوة لا يستهان بها حيث كان لها تأثير كبير على اتخاذ القرار السياسي ، وبالقدر الذي كان لهم الفضل في تقوية المركزية واستتاب أمنها ، واستقرارها ، قد يكونوا وراء إضعاف وتطويق نفوذها السياسي " . [c1]هل انتحر أم نحر ؟[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد تمكنت الحملة الحبشية البيزنطية من القضاء على الملك ( ذي نواس ) رمز المقاومة على أرض اليمن ضد الغزاة . ولقد أجمعت الروايات التاريخية أنّ الملك ( ذا نواس ) قد انتحر بعد أنّ أغرق نفسه في البحر . وفي هذا الصدد ، يقول ابن هشام : " فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسَه في البحر ، ثم ضربه فدخل به فخاض به ضحضاح ( الماء اليسير الذي لا غرق فيه ) البحر حتى أفضى به إلى غمره ( الماء الكثير يغرق فيه ) فأدخله فيه ، وكان آخر العهد به " . وتؤكد الدكتورة أسمهان الجرو نقلاً عن المصادر العربية الإسلامية أنّ الملك ( ذا نواس ) فضل الموت على الأسر " ورمى بنفسه من حصانه في البحر ، وملكت الحبشة اليمن " . [c1]معلومات مثير[/c]ويكشف حمود السقاف معلومات مثيرة وجديدة حول قضية مصرع الملك ( يوسف ) ( ذو نواس ) وهو أنه قتل ولم ينتحر كما تزعم المصادر العربية الإسلامية ، فهو يؤكد أنه قتل غدراً على أيدي بعض الحميريين وربما يكونوا من معارضيه وخصومه السياسيين والموالين للحبشة وبيزنطة . وفي هذا الصدد ، يقول : " وعلى العكس مما رواه الطبري ، ووهب ابن منبه وغيرهما من الأخباريين العرب ، فإن بيتاً من الشعر نُسب إلى عُلمقة ذي جدن أشار فيه إلى مصرع ذي نواس يوحي بأن ذا نوَاس لم ينتحر ، بل قتل غدراً على أيدي بعض الحميريين حيث يقول عُلقمة ذو جدن فيه : أوَما سمِعت بقتل حمير يوسف أكل الثعالب لحمه لم ينتحر [c1]الوجه الآخر للمك ( ذو نواس )[/c]الحقيقة أنّ الكثير من المؤرخين المحدثين والباحثين الحاليين يرون الملك ( ذي نواس ) بأنه وطنيا ، فقد كان يرفض تدخل النفوذ البيزنطي وحليفتهم الحبشة في شئون اليمن حتى أطلق عليه بعض المؤرخين بأن حركته تمثل حركة وطنية نابعة من التربة اليمنية الأصيلة ، وأنه بذل قصار جهده من أجل الحفاظ على الهوية اليمنية الأصيلة والأصلية ومن أجل هذا دفع حياته ثمناً لتلك القضية السامية والنبيلة . [c1]كان ملكاً غشوماً جباراً[/c]ولكن بعض المؤرخين ، والأخباريين العرب يرون أنّ الملك ( يوسف ) ( ذا نواس) كان ملكاً غشوماً ، جبارا ، طاغيةً بسبب سياسته العنيفة والشديدة إزاء النصرانية في اليمن ، وأن حادثة الأخدود لدليل واضح على اضطهاده الكبير على المسيحيين في نجران حصن المسيحية والذي ذكرها القرآن الكريم في سورة البروج . وربما هنا كان مناسباً أن نقتبس من كلام الأستاذ حمود السقاف حول حادثة الأخدود ، فيقول : " إنّ ما يؤكد فكرة رفض أهل نجران تقديم الرهائن إلى شرحئيل ذي يزن قائد قوات ذي نواس المحاصرة لهذه المدينة ، هو ما جاء في كتاب الحميريين السُرياني من أنّ الرّهائن الذين أرسلوا من نجران ، عادوا إليها . ويفيد النقش أنّ النتيجة التي ترتبت على رفضهم تقديم الرهائن هو شق مجمرة أي أخدود ، حسب ترجمتي له . إنّ ترجمتي التي تستند إلى الدراسة اللغوية لبعض مفردات هذه الفقرة من السطر السابع ، التي وردت في النقش RY 507 يدعمها ما ذكره الأخباريون العرب عن قيام الملك ذي نواس ، اليهودي العقيدة ، بشق أخدود ملأه بالنار لنصارى نجران ، كما أنّ ترجمتي يعززها أحد الافتراضات التي نسبها المفسرون إلى أنّ علي بن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، من أنّ أصحاب الأخدود المذكورين في سورة البروج ، كانوا قوماً باليمن " . [c1]الهوامش : [/c]الدكتورة اسمهان سعيد الجرو ؛ موجز التاريخ السياسي القديم لجنوب شبه الجزيرة العربية ( اليمن القديم ) ، مؤسسة حمادة للخدمات والدراسات الجامعية ، أربد - الأردن - . حمود محمد جعفر السقاف ؛ أضواء جديدة على التاريخ تبابعة وملوك اليمن ، الطبعة الأولى 1425هـ / 2004م ، مركز عُبادي للدراسات والنشر ، صنعاء - الجمهورية اليمنية - . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية - صنعاء - دار الميثاق للنشر والتوزيع 2006م .عبد السلام هارون ؛ تهذيب سيرة ابن هشام ، الطبعة الثالثة والعشرون ، 1416ه - 1995م.أحمد أمين ؛ فجر الإسلام ، الطبعة الحادية عشرة ، 1975م ، دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان - .الدكتور سيد أحمد علي الناصر ؛ الرومان والبحر الأحمر ، ندوة جامعة عين شمس - القاهرة - مصر - .