أضواء
جاءت التغييراتُ الوزاريةُ والقضائيةُ والفقهيةُ والإداريةُ بالمملكة العربية السعودية، متناغمةً مع مجريات التنمية والتطوير وخُطُواته التي انطلقت في العام 2005. ويلفت الانتباه على الخصوص في الوزارات ما تمَّ في التربية والعدل والإعلام والثقافة. ففي المجال التربوي والتعليمي، كانت هناك إضافة للوزير الجديد، تعيين نائبين له، أحدهما لشؤون تعليم البنين، والآخر لتعليم البنات. وكانت مؤتمراتٌ وندواتٌ متخصّصةٌ - بالإضافة إلى دورات مؤتمر الحوار الوطني - قد أشارت إلى ضروراتٍ للتغيير والتطوير في الشأن التعليمي، وفي البرامج؛ في حين كان هناك اهتمام في مؤتمرات الحوار الوطني أو دوراته بمسائل عمل المرأة وحرية حركتها وحقوقها وتمكينها. والمعروف أنه جرى في الأعوام الأخيرة بالمملكة اهتمامٌ بتجديد البرامج في سائر فروع التعليم. ولذا فإنّ هذا التغيير يبعث على التفكير في طرائق الإدارة التعليمية من جهة، وفي مسائل تمكين المرأة من جهةٍ أخرى. والحقُّ أنّ المُشْكِل التعليميَّ في المرحلتين الأساسية والثانوية، عالميّ، ولا يقتصر على بلداننا. فقبل أيام قال الرئيس الأميركي الجديد إنّ الأزمة في التعليم الأساسي، والتعليم العالي، في الولايات المتحدة، تضاهي في صعوبتها الأزمة المالية العالمية! وفي السنوات الأخيرة أيضاً ازدادت الخطوات في مجال تمكين المرأة في الصحة والإدارة الصحية، والتعليم والإدارة التعليمية. وفي مجتمعٍ شابٍ، يتسارعُ النموّ السكّاني فيه، وتُقبِلُ البناتُ على الخصوص على التعليمين الثانوي والعالي؛ فإنَّ الأمر يحتاج فيه إلى الاستجابة لهذا التحدي متعدِّد الأوجُه. ولا شكَّ أنّ المشكلات التقنية والإدارية ذات أهمية في هذه المسألة. لكنّ التوجُّه والتوجيه إليها ينمّان عن رؤيةٍ معيَّنةٍ تدخل في أبواب المشاركة والتنمية والتمكين ولا يقلُّ عن ذلك أهمية التغيير في وزارتي الثقافة والإعلام. فالمعروف أنّ وزارة الثقافة حديثة النشأة، وما انطلق العملُ فيها إلى مداه المرجوّ بعد. وفي هذا الزمن ما عادت لوزارات الثقافة مهمات مشابهةٌ لما كان عليه الأمر في الدول الاشتراكية لجهة التوجيه الأيديولوجي، أو المساعدة الاجتماعية والمادية للَمرضي عنهم من المثقفين والكُتاب. كما أنّ إدارة معارض الكتاب والمناسبات الثقافية، يمكن أن تقوم بها جهات خاصةٌ مختصةٌ بطرائق أفضل من الجهات الرسمية. هناك نشاطات نوعيةٌ من حق وواجب وزارات الثقافة القيام بها في زمن العولمة، وزمن التحديات الذي تتعرض له الهوية العربية والانتماء العربي. وقد أَطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز حوار الأديان والثقافات، وشاركت فيه رابطة العالَم الإسلامي. وتستطيع وزارة الثقافة عندما تتخذ مكانها الصحيح أن تكونَ هي جهة المتابعة وتعديد النشاطات وتوليدها، وفتح آفاقٍ استراتيجية لها. وهذا أَمريضاف إلى عملها الأساسي على الهوية العربية والانتماء العربي، وعلائق ثقافتنا بالثقافة العالمية. والأَمر مع وزارة الإعلام، لا يختلف عنه مع وزارة الثقافة. فالدولة مالكةٌ أو داعمةٌ لأكثر وسائل الإعلام، والاتجاه إلى التخصيص، وتطوير ممارسات حرية التعبير ومسؤولياته. وهذه كلُّها أمور ما عادت البيروقراطية الرسمية مفيدةً فيها كثيراً. بل المفيد والضروري للجمهورين السعودي والعربي خارج المملكة المتابعة والنشر بوسائل متطورة للسياسات العربية والإقليمية والعالمية الجديدة للمملكة. فقد كانت المملكة قويةً دائماً بثرواتها الطبيعية، وموقعها الديني، وقدراتها المالية. لكنها اليوم هي المركز الرئيسي والعاصمة الأولى للأمة العربية، وقد أطلقت مبادرات تحولت إلى سياسات في شتى المسائل حتى فيما يتعلق بالأزمة المالية العالمية. وهذه الوظائف والأدوار التي أعطاها إياها موقعها وإمكانياتُها من جهة، وتصديها أيام الملك عبد الله بن عبد العزيز لقيادة الأمة وحماية المنطقة، وتطوير قدراتها وتنميتها، وتدعيم الاستقرار، والتطلع إلى مستقبلٍ آخر؛ كُلُّ ذلك مهماتٌ تحتاجُ إلى سياسات إعلام طَموحٍ يتلاءم مع ما يأْمُلُهُ العرب منها، وما تريدُهُ هي من العرب على المستويين الإقليمي والدولي. ولذلك يكتسب التغيير في إدارتي الإعلام والثقافة معنًى ودلالات ما كانت لهما في الظروف العادية. وقد عرفنا في لبنان السيد عبد العزيز الخوجه الذي صار وزيراً للإعلام والثقافة. ونحن معه بين الكيمياءَين: كيمياء اختصاصه، والكيمياء الأخرى التي سمّاها الغزال: كيمياء السعادة. وكان قد ردَّدَ في «سِفْر الرؤيا» لازمة: لو أنهم جاءوكَ؛ وكان يقصدُهُ صلواتُ الله وسلامهُ عليه بحسب الآية الكريمة في ذلك. وها هي قد جاءته، والتحدياتُ كبيرةٌ، لكنه أهْلٌ لها، وكيف لا يكونُ كذلك، وقد استطاع الثباتَ في الهَول الأعظم؟! وأَصلُ إلى ما أعتبرُهُ أموراً أساسيةً في التغيير الأخير، وهي تتعلق بالقضاء، وبهيئة كبار العلماء. أما في هيئة كبار العلماء فقد عين الملك فقهاءَ من المذاهب السُنّية الأخرى أي الشافعية والمالكية والأحناف. وكانت الهيئة مشكَّلةً طوالَ العقود الماضية من علماء الحنابلة. وللهيئة مقام رفيع في شؤون المرجعية والفتوى وعمل المؤسسات. ومنذ بداية العصر المملوكي (حوالي العام 665هـ) اعترفت الدولةُ الإسلامية بالمذاهب الأربعة السنية، وأشركتْ علماءَها في القضاء والتعليم والإشراف على الأوقاف والفتوى. وقد آثر العثمانيون المذهب الحنفي في القضاء والفتوى، دون أن يلْغوا نفوذ وتأثيرات المذاهب الأخرى. وما تعرضت الدولةُ السعودية للمذاهب السنية الأخرى، باستثناء بعض التضييق على الصوفية؛ لكنها اعتبرت المذهب الحنبلي مذهب الدولة شأن العثمانيين مع الأحناف. والواقع منذ عقود أنّ المؤسسةَ الدينية السنية كلَّها في حالة تأزُّمٍ وانكماش. ويرجعُ ذلك إلى السياسات المختلفة للدول العربية الحديثة إزاءَها، وإلى وجوه القصور الذاتي ضمن المؤسسة. فقد عمدت بعض الدول إلى إضعافها كثيراً بحجة وقوفها في وجه التحديث أو الاشتراكية. كما عمدت بعض الدول العربية إلى إبقائها على قوتها أو زيادة نفوذها، لكنها ألْحقتها بها داعمةً ومستنصرةً في شرعنة المؤسسات والتصرفات، ومكافحة الأصوليات. ثم جاء التمرد الإحيائي/الأُصولي، والسلفي، وضرب بعنف في الدول التي أُضعفت فيها المؤسسة الدينية، وبعنفٍ أقلّ في الدول التي استلحقت المؤسسة. والواضح الآن أنه لا بدَّ من أجل مواجهة الأُصولية والعنف، من تغيير التعامل مع المؤسسة الدينية التقليدية، ولجهات الاستتباع أو الإضعاف أو الإهمال. والذي أراه أنّ هذا التعديد في المرجعية الدينية العليا من ضمن المنظومة السائدة، هو عود لتقليدٍ حميدٍ، وهو تقويةٌ للمؤسسة الدينية في وجهها المشرق والذي يحبهُ الناس. ولن يحلَّ ذلك مشكلة التطرف بالطبع؛ ذلك أنّ سائر المذاهب الإسلامية تعاني من تمرد أُصوليٍ في داخلها، ومن مصر الشافعية، إلى باكستان الحنفية، إلى إندونيسيا الشافعية أيضاً. لكن ما دام الأمر قد بدأ بتقوية المؤسسة في مرجعيتها أو رأْسها، فيمكن أن يكونَ منطلقاً لسياساتٍ جديدةٍ ليس تجاه المؤسسة الدينية فقط؛ بل تجاه العلاقة بين الدين والدولة بشكلٍ عام. وقد غبر علينا زمن كان يقالُ فيه إنّ الدولة السعودية هي آخر الدول الخلدونية، بمعنى أنه توافرت لها دعوةٌ دينيةٌ + عصبية قَبلية. وأنّ فيها ثُنائية الشيخ والأمير. لكن الأزمنة المعاصرة عصفت بكلّ تلك التصنيفات، وأدخلتنا من ناحية الوعي في زمن الثُنائيات: إما دولة إسلامية أو دولة علمانية لا دين لها. وقد أسهم في هذا الإيهام العلمانيون والإسلاميون معاً. وحسبنا في العقدين الأخيرين أننا وجدنا الحلَّ عندما عدنا لإطلاق عنوان «الدولة المدنية» على النظام المأمول والمرغوب. ولدينا اليوم نموذجان أو نماذج للعلاقة بين الإسلام والدولة كلُّها تعاني من مشاكل. لدينا الدولةُ التي ترعى المؤسسة الدينية، وتنفّذ أحكام الدين التي تنصح بها المؤسسة. ولدينا نموذج الإسلام السياسي الذي يسيطر على الجمهور أو أجزاء واسعة منه، ويتصدى بهذا الجمهور للنظام السياسي، بداعي إقامة دولة إسلامية تطبق الشريعة. ولدينا أخيراً الأنظمة التي لا تجد مبرراً لبقائها غير التقرب للنظام الدولي بأنه لابديل عنها إلاّ الأصولية المتشددة؛ ولذا فعلى النظام الدولي أن يدعمها ويحميها. فليكن هذا الانفتاح على تعاملٍ آخر مع المؤسسة الدينية بالمملكة، منفذاً لرؤية أخرى في علاقة الدولة بالمؤسسة، والمرجعية الدينية بالجمهور. وأرى أنّ التغييرات التي جرت في المؤسسة القضائية عميقةٌ وبعيدةُ الغور ومن النواحي: الإدارية والتنظيمية، والفقهية، والسياسية. ففي المملكة العربية السعودية مشروع تنموي كبير وهائلُ الاتساع، والقضاء وحكم القانون وجهٌ أساسيٌّ من وجوه نجاحه أو تعثُّره. وقد نجح القضاءُ الإسلامي في العقود الثلاثة الأخيرة في مواجهة كثيرٍ من المشكلات بالمعالجة. وأنا أقولُ هذا وفي الذاكرة، وأُشير إلى أنّ هذا القضاء أُزيل لصالح أنظمة قانونية أخرى بعد منتصف القرن التاسع عشر في الدولة العثمانية. فالذي أراه أنّ هذا التطوير، الذي يترافق مع نزعة تقنينية قوية، كفيلٌ بجعله أكثر مرونةً وكفاءة، وكفيلٌ بإحداث تلاؤم بين النزوع التنموي، والنزوع إلى التنظيم والضبط وحكْم العدالة. [c1]*عن/ جريدة ( الشرق الأوسط) اللندنية[/c]