لم يحظ قرار من قرارات الرئيس عبد الناصر بانتقادات واسعة وهجوم شرس مثل قرار مساندته لثورة اليمن التى اندلعت في 26 سبتمبر 1962 ، فقد تم اتهام عبد الناصر أنه بدد احتياطي مصر من الذهب هناك ، وخرب الاقتصاد المصري،وضحى بأرواح عشرات الألوف من الشباب المصري على سفوح جبال اليمن،وأن وجود جزء من الجيش المصري في اليمن (50 ألف مقاتل ) كان هو السبب الرئيسى في كارثة يونيو 1967 .وهكذا أصبحت مساندة مصر لثورة اليمن هى سبب كل النكبات والمشاكل، وفى ظل مناخ اعلامي معادي للثورة وقائدها راج هذا الكلام وشاع وأصبح من المسلمات،ولكن بكثير من التدقيق ومحاولة قراءة ما وراء السطور سنكتشف معاً زيف كل تلك الأقاويل ، بل سنكتشف أن ترويجها له هدف آخر هو تشويه ذلك القرار الجسور وجعل تكراره من المحرمات وإصابة الشعب المصرى بعقدة ذنب وعاهة نفسية من مجرد ذكر تاريخ مصر في اليمن في عهد جمال عبد الناصر. ولنبدأ معا تفنيد تلك الأكاذيب:- بخصوص تبديد احتياطى الذهب المصرى فهذا لم يحدث بالمرة بل كان الذهب الذى تم توزيعه على قبائل اليمن من أموال الملك المخلوع سعود بن عبدالعزيز الذى خلعه أخوه الملك فيصل بن عبد العزيز عن العرش عام 1964 ، وعاش لاجئا فى مصر وكان يريد استرداد عرشه عبر محاربة أخيه فى اليمن ، وكان هو الذى أقترح على الرئيس عبد الناصر فكرة رشوة رؤساء القبائل اليمنية بالذهب، وحول جزء من أمواله إلى عملات ذهبية وسافر بنفسه مع وفد مصرى لليمن لمقابلة زعماء القبائل هناك ، ولمن يريد الإستزادة عن خرافة تبديد احتياطى مصر من الذهب أن يعود إلى دراسة sالمرحو م الدكتور علي نجم رئيس البنك المركزى المصرى السابق والتى فند فيها بالأدلة والوثائق تلك الخرافة.- بخصوص تخريب الاقتصاد المصرى بسبب اشتراك مصر فى حرب اليمن فى الفترة من 1962 - 1967 ، فالأرقام تخبرنا بالتالى :حققت مصر نسبة نمو من عام 1957 ـ 1967 بلغت ما يقرب من 7 % سنويا ومصدر هذا الرقم تـقرير البنك الدولى رقم [ 870 ـ أ ] عن مصر الصادر فى واشنطن بتاريخ 5 يناير 1976.وهذا يعنى يعنى أن مصر استـطاعت فى عشر سـنوات من عصر عبد الناصر أن تـقوم بتنمية تماثـل أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه فى الأربعين سنة السابقة على عصر عبد الناصر. كانت تلك نتيجةً لا مثيل لها فى العالم النامى كله حيث لم يزد معدل التنمية السنوى فى أكثر بلدانه المستقلة خلال تلك الفترة عن اثنين ونصف فى المائة بل أن هذه النسبة كان يعز مثـيلها فى العالم المتـقدم باستثـناء اليابان ، وألمانيا الغربية ، ومجموعة الدول الشيوعية, فمثـلا ايطاليا وهى دولة صناعية متـقدمة ومن الدول الصناعية الكبرى حققت نسبة نمو تـقدر بـ 4.5 % فقط فى نفس الفترة الزمنية.كما استطاعت مصر تنفيذ أنجح خطة خمسية فى تاريخها من 1960 - 1965 ،وبدأت الخطة الخمسية الثانية من 1965-1970 ،بل أنه وبرغم هزيمة 1967 حافظت مصر على نسبة النمو الإقتصادي قبل النكسة, و زادت هذه النسبة فى عامى 1969 و 1970 وبلغت 8 % سنويا. وأستطاع الاقتصاد المصرى عام 1969 أن يحقق زيادة لصالح ميزانه التجارى لأول وأخر مرة فى تاريخ مصر بفائضقدره 46.9 مليون جنية بأسعار ذلك الزمان.وفى الفترة الزمنية نفسها من عقد الستينيات من القرن الماضى كانت مصر تبني السد العالى أعظم مشروع هندسى وتنموي فى القرن العشرين باختيار الأمم المتحدة والذى يعادل فى بنائه 17 هرم من طراز هرماً خوفو .. وتبنى القطاع العام الذى بلغ ثمنه بتـقديرات البنك الدولى 1400 مليار دولار،كما كان لدى مصر أكبر قـاعدة صناعية فى العالم الثـالث حيث كان عدد المصانع التى أنشئت فى عهد عبد الناصر 1200 مصنع منها مصانع صناعات ثـقيلة وتحويلية وإستراتيجيةوهكذا يتضح لنا أن مساندة مصر لثورة اليمن ومساعدتها للشعب اليمنى فى التحرر من العبودية لم تدمر اقتصادها .- وبخصوص استشهاد عشرات الألوف من الشباب المصرى بسبب حرب اليمن، يقول الفريق/محمد فوزى فى كتابه(حرب الثلاث سنوات) أن عدد شهداء مصر فى اليمن بلغ خمسة آلاف شهيد ضحوا بأرواحهم من أجل تحرير إخوانهم فى الدين والعروبة، وأن الضباط والجنود كانوا يتسابقون على طلب الاشتراك فى حرب اليمن بسبب ما يعود عليهم من امتيازات .وهكذا فأن الرجل الذى كان رئيسا للأركان فى الجيش المصرى خلال تلك الحرب ،ثم وزيرا للحربية بعد نكسة 1967 يثبت لنا بالأرقام أن عدد شهداء مصر فى اليمن ليس عشرات الألوف كما أشيع بل هو خمسة ألاف شهيد ، ويكفينا أن نعلم أنه بدون حروب ، وفى الفترة من عام 1980 إلى عام 2009،توفي 180 ألآف مصرى فى حوادث الطرق بمعدل 6000 قتيل سنويا، بينما فى حرب اليمن استشهد 5000 مصرى فى خمس سنوات من القتال.وهكذا فأنه من الأولى للباكي على شهداء مصر فى اليمن خلال حرب طاحنة أن يبكى على قتلى مصر فى حوادث الطرق برقمهم المهول 180 ألف قتيل،وهو رقم يزيد على 4 أضعاف شهداء مصر فى حروبها الخمسة ضد إسرائيل والذى أحصى الصليب الأحمر عددهم ، وقدره بـ40 ألف شهيد.تبقى نقطة أن وجود الجيش المصرى فى اليمن كان هو السبب الرئيسى فى كارثة 5 يونيو 1967 .وهنا يختلف السياق فلم يكن وجود جزء من الجيش المصرى فى اليمن هو سبب الهزيمة على أساس أن الجيش الذى كان فى مصر لم يكن مكتملا ،يكفى أن نعلم أن القوة الضاربة المصرية كلها كانت فى مصر متمثلة فى القوات الجوية والمدرعات،وقوات الدفاع الجوى، كانت كل القوات اللازمة للخطة «قاهر» علاوة على أربعة لواءات مستقلة وأربع فرق مشاة ،وفرقة مدرعة وثلاثة لواءات مدرعة مستقلة مع وحدات سلاح المدفعية والهاون وسلاح المهندسين فى مصر.لم تكن حرب اليمن هى سبب الهزيمة بل كان فشل قيادة القوات المسلحة هو السبب الرئيسى فى الهزيمة، كان الاهمال والتراخى والثقة الزائدة بالنفس غير المبررة، وسيطرة المشير عامر على الجيش هو وشلته وعزل الرئيس عبد الناصر عن حقيقة أوضاع الجيش المصرى، وبالطبع التآمر الدولى كان له دور كبير أيضا فى الهزيمة.إذن لماذا يوجد هذا الربط الدائم بين وجود جزء من الجيش المصرى فى اليمن فى الفترة من 1962 - 1967 وبين كارثة 5 يونيو 1967 ؟هنا لابد من مراجعة الدور السعودى فى حرب اليمن وفى التحريض على حرب 1967 وهذا الدور يأتى فى إطار الرؤية الغربية العامة بأن عبد الناصر تعدى كل الخطوط الحمراء بمساندته لثورة اليمن ماديا وعسكريا، وأصبح من اللازم تحطيم نظامه والاطاحه به بعدما تجرأ على ارسال جيشه إلى منابع كنز الحضارة الغربية ومحركها الرئيسى (البترول)، ومناداته الدائمة (أن بترول العرب للعرب ، ويجب أن يتم استخدامه كسلاح لتحقيق المصالح العربية)، هذا بالأضافة لأسباب أخرى مثل عدائه لإسرائيل ورفضه الصلح معها، ومحاربته لقوى الاستعمار القديم والجديد، وبناءه نموذجاً تنموياً اقتصادياً واجتماعياً خارج منظومة الاحتكارات الرأسمالية الغربية، وسعيه للتصنيع ،وانتاج الأسلحة والصواريخ،ومشروع مصر النووى ،كل تلك الأسباب مجتمعة مع تأييده لحرب اليمن شكلت السبب الرئيسى لضربة يونيو 1967 .فى 26 سبتمبر 1962 تندلع ثورة الضباط الأحرار اليمنيين ضد نظام أسرة حميد الدين الاستبدادى المتخلف .ورغم النزاعات الدموية التاريخية والخلافات الحدودية بين أسرة حميد الدين فى اليمن و الأسرة الحاكمة السعودية كانت السعودية الخائفة من انتقال الثورة إليها هى التى بدأت التدخل فى ثورة اليمن بالتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا، فقد وقفت السعودية بضراوة ضد الثورة اليمنية وعملت على إجهاضها وتبنت الأمير البدر باعتباره إمام اليمن كما قامت بتمويل القبائل اليمنية بالكميات اللازمة من السلاح والذهب وبالفعل يسقط العقيد على عبد المغنى أحد أهم قادة الثورة اليمنية وهو يدافع عن مدينة صعدة اليمنية ضد هجوم قبلى سعودى يمنى ، وتتحالف السعودية مع بريطانيا التى كانت تحتل جنوب اليمن ويقابل الأمير فيصل بن عبد العزيز ( ولى العهد والحاكم الفعلى للسعودية ) السير دوغلاس رايت رئيس جهاز المخابرات البريطانى الذى يقول للأمير ( إن نجاح الكولونيل ناصر فى الحصول على موطئ قدم لمشروعاته الانقلابية فى الجزيرة العربية ، وهى أهم مصادر البترول واحتياطاته فى العالم ، هو نذير شؤم يجب أن تتعاون الأطراف كلها، ممن لهم مصلحة فى ذلك على مقاومته ودحضه)[وبالفعل يبدأ تعاون سعودى أردنى رغم الحساسيات السعودية الهاشمية بالاشتراك مع بريطانيا التى أقلقها ما اعتبرته مشروعات ناصر المستمرة لطردها من أخر معاقلها شرق السويس ، وتكاد الثورة تجهض لولا طلبها المساعدة من القاهرة ،فيطلب الثوار اليمنيون من الرئيس عبد الناصر حماية جمهوريتهم الوليدة حتى لا يسقط اليمن مرة أخرى تحت الحكم الامامى المتخلف ، وبالفعل يدعم الرئيس عبد الناصر الثورة اليمنية عسكريا بقوات مسلحة مصرية فى عملية كبرى كان أسمها الكودي ( العملية 9000 ) كما تولت مصر مهمة إدخال الحضارة إلى اليمن بإنشاء جهاز للدولة لأول مرة فى تاريخ اليمن ، وتأسيس المستشفيات والمدارس و الطرق و الموانئ والمطارات من أجل نقل اليمن إلى القرن العشرين ، أدت هذه التطورات إلى اشتعال الثورة فى عدن و اليمن الجنوبى وقد دعمتها مصر بكل ثقلها فى عملية كان أسمها الكودى ( صلاح الدين) .ينجح عبد الناصر فى الحصول على اعتراف الولايات المتحدة بحكومة الثورة فى اليمن فى 19 ديسمبر 1962 مقابل أن يتم سحب كل القوات المساندة للثورة والمساندة للإمام من اليمن ،كما تقدم الحكومة الأمريكية معونات للحكومة الجديدة فى اليمن.رفضت السعودية هذا الاتفاق وواصلت دعمها للقبائل الموالية لحكم الإمام ، ويتعرض الرئيس كنيدى لضغوط شديدة متعددة من شركات البترول والبنوك الأمريكية إلى جانب الحكومة البريطانية بسبب اعترافه بالنظام الجديد فى اليمن لخطورة ذلك على أوضاع النظام الحاكم فى السعودية ، ومصالح الغرب فى البترول العربى ،وبالفعل يتم وضع خطة سميت ( السطح الصلب ) تتعهد فيها الولايات المتحدة بضمان أمن وسلامة النظام السعودى والأراضى السعودية ،وبالأموال السعودية ومع مساندة بريطانية ومن شركات البترول الأمريكية تم تشكيل تحالف دولى لتجنيد مرتزقة من كل أنحاء العالم وشراء أسلحة للقتال فى اليمن ضد القوات المصرية التى تدافع عن الثورة كما دخلت المخابرات الأمريكية بثقلها إلى ساحة المعركة المحتدمة فى اليمن وأصبحت الحدود السعودية اليمنية مناطق حشد لنقل السلاح والذخيرة والمقاتلين المرتزقة إلى اليمن وتحولت الحرب إلى عملية استنزاف طويلة بين الجانبين المتصارعين.كما أنشأت السعودية للملكيين محطة إذاعية للتنديد بالنظام الثورى الجديد ، كما وفرت الحماية والغطاء اللازم للأمير البدر ليقود الملكيين مدعوما بجيوش من المرتزقة بتخطيط أمريكى بريطانى ،وبهذا عمت الثورة أنحاء اليمن شمالا وجنوبا وهددت معاقل الرجعية العربية ومنابع البترول شريان الحياة للحضارة الغربية.فى كتاب المفاوضات السرية بين العرب و إسرائيل - الجزء الثانى - للأستاذ محمد حسنين هيكل ، نجد الوثيقة التالية:سجل السفير الأمريكى فى جدة ( باركر هارت ) فى برقية إلى وزارة الخارجية الأمريكية ( وثيقة رقم 36651/43 بتاريخ 19 أغسطس 1964 ) محضر مقابلة جرت بينه و بين الملك ( فيصل بن عبد العزيز )يقول السفير الأمريكى :اتصل بى البروتوكول صباح أمس لإبلاغى أننى مطلوب فى الطائف فى الساعة 4:15 ولم يعطنى البروتوكول أى إيضاحات فيما عدا أن هناك طائرة سوف تحملنى إلى الطائف بعد الظهر. استقبلنى الملك فيصل فى قصر الشبرة فى الساعة التاسعة مساء فى حضور السقاف و فرعون، و قال الملك إن هناك شيئا حدث وهو يريد إخطارى به بنفسه كصديق شخصى لى وكممثل لبلد صديق له و لأسرته ، ثم قال الملك إنه خلال يومين سابقين ( يومى 13 و 14 أغسطس ) قامت ثلاث طائرات مصرية باختراق المجال الجوى السعودى جنوب شرق جيزان فوق مناطق قبائل الحارث وأبو عريش ، وإن هذه الطائرات قامت بعدة دورات على ارتفاعات منخفضة فى محاولة ظاهرة للاستفزاز ، كما أن لديه معلومات من داخل اليمن تؤكد أن هناك قوات مصرية تتحرك صوب الحدود السعودية، وقد حاولت أن أسأل الملك بإلحاح عن تفاصيل أكثر بشأن هذه المعلومات ، ولم يكن لديه شيئ لا عن حجم هذه القوات و لا عن تسليحها و لا عن مواقعها ، و قد قال الملك إن هذه التطورات تثير فى ذاكرته ما سبق أن سمعه عن مؤامرة بين مصر و العراق و الأردن ( !) لغزو و تقسيم بلاده على النحو التالى : حسين يأخذ الحجاز ، والعراق تأخذ المقاطعة الشرقية ، واليمن تأخذ الجنوب ، و باقى المملكة يدخل تحت سيطرة ناصرقال لى الملك أيضا إن ناصر أوحى إلى صديقه الصحفى هيكل بأن ينشر خطة عن منظمة عربية للبترول ، ثم أضاف إن السعودية محاصرة ، وقد لا تكون السعودية دولة كبيرة أو قوية ، ولكنها دولة تريد أن تحتفظ بأراضيها و شرفها ، و إذا كان ناصر كما هو واضح يريد أن يضع يده على المملكة متصورا أن ( فيصل ) سوف يقف ساكتا فى انتظار أن يخنق ، فهو مخطئ فى ذلك ، وأشار الملك إلى أنه سوف يقاوم عسكريا ، و هو قد أتخذ عدة قرارات يريد أن يبلغنى بها الأن :1 ـ قرر أن يدخل أسلحة إلى المنطقة المنزوعة السلاح على حدود اليمن وقد أصدر أمرا فعلا بذلك.2 ـ إنه أعطى أوامر بالفعل إلى قواته أيضا بأن تحتشد على حدود اليمن لتكون فى وضع يسمح لها بأن تدافع عن السعودية.3 ـ وهو الأن لا يعتبر نفسه مرتبطا باتفاق فصل القوات فى اليمن ، وسوف يساند الملكيين بأى طريقة يراها مناسبة.أبديت دهشتى للملك ، كما أبديت له إستغرابى لكل ما قاله عن الاتفاق الثلاثى بين مصر و العراق و الأردن، ثم أطلعنى الملك على تقرير مخابرات سعودى يحوى معلومات عن أن ضباطا من الجيش المصرى رتبوا عملية لقتل ناصر يوم 26 يوليو ، وأضاف الملك ( أن ناصر مريض جدا ) ، ثم أمر بإخلاء القاعة من كل الحاضرين عداه و عداى ، وانتهزت الفرصة ورجوت الملك ألا يبعث بقوات إلى حدود اليمن ، وأن يحتفظ بما يشاء من قوات فى أوضاع تأهب فى أى مكان يراه بعيدا عن الحدود ، فتدخل الملك بحدة قائلا ( أخرجوا القوات المصرية من اليمن و سوف ينهار هذا النظام الذى يدعون بمساعدته فى شهر أو اثنين على أكثر تقدير, ثم استجمع الملك حيويته ليقول لى ( إنكم يجب أن تبذلوا أقصى جهد للخلاص من هذا الرجل الذى يفتح الطريق للتسلل الشيوعى ) ، وكان يعنى ( ناصر ) ثم قال لماذا تصبرون عليه ؟ ألا ترون أنه لا يكف عن مهاجمتكم يوميا ، مرة بسبب فيتنام ، ومرة بسبب كوبا ، ومرة بسبب الكونجو ؟ ما الذى يخصه فى الكونجو ؟ إن مقترحاته بشأن نزع السلاح فى جنيف جاءته مباشرة من فى شكل تعليمات من موسكو ، و أبديت تحفظى ولكن الملك كان لا يزال يصر على أن ( ناصر ) يعادينا و يخدعنا ، وإننا مازلنا نحاول استرضاءه ، وذكرته أننا عطلنا توريد القمح إلى مصر طبقا للقانون 480 عقابا لناصر على سياسته ، وعقب الملك أوقفوا عنه الطعام تماما وسوف ترون ما يحدث.يقول الأستاذ هيكل ان هذه المقابلة كانت غريبة وفاقدة للمصداقية ليس فقط بسبب طلب الملك فيصل ( تجويع المصريين) ، ولكن لأن الأردن كان حليفا للسعودية فى حرب اليمن ، ويضيف ان إسرائيل أيضا كانت تشجع التحالف المساند للملكيين فى اليمن ولعبت دورا فى العمليات العسكرية أطلق عليه الاسم الكودى ( مانجو )،فعندما اشتدت حاجة قوات المرتزقة فى اليمن إلى مؤن و ذخائر تلقى على مواقعهم من الطائرات بالباراشوت ورفض الطيارون الأردنيون والسعوديون القيام بذلك وتوجهوا بطائراتهم إلى مصر أكثر من مرة طالبين اللجوء السياسى ،وهنا قررت جبهة دعم الملكيين فى اليمن بزعامة السعودية الإستعانة بإسرائيل، وبالفعل قام الطيران الإسرائيلى بهذا الدور.وفى شتاء عام 1964 يعقد حلف شمال الأطلنطى اجتماعا لمناقشة ورقة العمل التركية التى أعدها وزير الخارجية التركى وتحمل عنوان ( تصفية عبد الناصر ) .ومحضر هذه الجلسة الذى يناقش ورقة العمل التركية يتحدث عن الدور المشاكس والمضاد لمصالح الغرب الذى تلعبه مصر بزعامة جمال عبد الناصر عبر العديد من المشكلات التى تسبب فيها عبد الناصرإفشال فكرة الأحلاف العسكرية- شراء الأسلحة من الكتلة الشرقية- تأميم القناة- تمصير وتأميم المصالح الأجنبية فى مصر- الوحدة مع سورياثم ثورة اليمن وهى الطامة الكبرى بالنسبة لمصالح الغرب ..فوجود الجيش المصرى فى اليمن لمساندة الثوار أدى إلى نشوء وضع خطير هو تحكم مصر فى طريق المواصلات بالبحر الأحمر من الشمال عبر قناة السويس ، ومن الجنوب عبر مضيق باب المندبكما أن هذا الوجود يهدد بزوال العرش الملكى السعودى الذى يحارب الثورة اليمنية وهو العرش الموالى للغرب والذى يضمن تدفق البترول إلى الغرب بكل يسر .وتعرض الوثيقة إلى الأطراف العربية التى تعادى طموحات جمال عبد الناصر وسياساته وتحددها فى المملكة العربية السعودية الأردن ليبيا تحت حكم الملك السنوسى .كما تلفت النظرإلى سوء العلاقات المصرية السورية والمصرية العراقية كما تتحدث عن النفوذ المصرى فى إفريقيا المعادى لمصالح الغرب وتدعو إلى دراسة الاقتراح بتوجيه ضربة عسكرية موجعة إلى عبد الناصر كما تطالب بتحويل اليمن إلى مستنقع يغوص فيه الجيش المصرى ما يساعد على إنجاح الضربة العسكرية الموجهة إلى مصر مع التنبيه على أنه إذا استمر الوضع الحالى فى اليمن فإن العرش السعودى مهدد بالزوال عام1970 .وبرصد المخابرات المصرية لتطور الأوضاع فى ساحة الحرب اليمنية ومدى تشابك المصالح والقوى الدولية التى تلعب على وتر إطالة الحرب فى اليمن من أجل استنزاف القوات المصرية هناك واستنزاف الأموال السعودية ، قرر الرئيس عبد الناصر أن يزور السعودية فى أغسطس 1965 لأداء العمرة ومقابلة الملك فيصل للوصول إلى حل فى اليمن. وفى 22 أغسطس 1965 وصل الرئيس عبد الناصر إلى جدة وحاول إقناع الملك أن مصر لا تريد قلب النظام فى السعودية ولا تهدف لفرض سياستها على السعودية، كما قدم له وثائق عن تجنيد المرتزقة وتجارة السلاح وتجار الحروب الذين وجدوا فى حرب اليمن سوق لكسب الأموال وإهدار القوة العربية ، وتوصل الزعيمان يوم 24 أغسطس 1965 إلى ما عرف بعد ذلك باسم اتفاقية جدة التي قررت أن يتم عمل استفتاء للشعب اليمني يقرر فيه نظام الحكم الذي يرتضيه فى موعد أقصاه 23 نوفمبر 1966 وتعتبر الفترة الباقية حتى موعد الاستفتاء فترة انتقالية للإعداد له ، لم يتم تنفيذ بنود الاتفاقية بسبب تراجع الملك فيصل عن الإلتزام بها ، ويصرح الرئيس عبد الناصر ( بأنه لا فائدة ترجى من اللقاء مع الرجعيين ، بعد كل ما رآه وسمعه فى السياسات السلمية السابقة التى مارسها إزاءهم فى اللقاءات والمؤتمرات )، وفى 21 يونيو 1966 وصل الملك فيصل فى زيارة إلى الولايات المتحدة وسبقته مجموعة المقدمة السعودية التى أوضحت للمسئولين الأمريكيين ان المشكلة بالنسبة للسعودية ليست إسرائيل ، وأن الخطر الحقيقى هو حركة القومية العربية كما تمثلها القاهرة ، وأن السعودية ماضية فى تنفيذ فكرة المؤتمر الإسلامى كبديل للجامعة العربية ، وخلال الزيارة التقى الملك فيصل بالرئيس الأمريكى جونسون لمدة نصف ساعة فى اجتماع منفرد لم يحضره معهما إلا مترجم من المخابرات الأمريكية وليس وزارة الخارجية كما جرت العادة ، وقد أذيع تصريح بعد الاجتماع المنفرد جاء فيه ( إن تدهور الأوضاع فى اليمن بعد تعثر اتفاق جده وفشله قد جرى بحثه بين الرئيس والملك ، وأن الرئيس قدم للملك تعهد الولايات المتحدة بأن السعودية تستطيع الاعتماد على صداقة أمريكا مهما كانت تطورات الأمور فى اليمن).فى كتاب ( عقود من الخيبات ) للكاتب حمدان حمدان الطبعة الأولى 1995 الصادر عن دار بيسان فى الصفحات من 489 ـ 491 ، نجد تلك (الرسالة/الوثيقة) والتى أرسلها الملك فيصل بن عبد العزيز إلى الرئيس الأمريكى ليندون جونسون ( وهى وثيقة حملت تاريخ 27 ديسمبر 1966 الموافق 15 رمضان 1386 ، كما حملت رقم 342 من أرقام وثائق مجلس الوزراء السعودى ) وفيها يقول الملك العربى ما يلى :من كل ما تقدم يا فخامة الرئيس ، ومما عرضناه بإيجاز يتبين لكم أن مصر هى العدوالأكبر لنا جميعا ، وأن هذا العدو إن ترك يحرض ويدعم الأعداء عسكريا وإعلاميا، فلن يأتى عام 1970 ـ كما قال الخبير فى إدارتكم السيد كيرميت روزفلت ـ وعرشنا ومصالحنا فى الوجودلذلك فأننى أبارك ، ما سبق للخبراء الأمريكان فى مملكتنا ، أن اقترحوه ، لأتقدم بالاقتراحات التـالية :ـ أن تقوم أمريكا بدعم إسرائيل بهجوم خاطف على مصر تستولى به على أهم الأماكن حيوية فى مصر، لتضطرها بذلك ، لا إلى سحب جيشها صاغرة من اليمن فقط، بل لإشغال مصر بإسرائيل عنا مدة طويلة لن يرفع بعدها أى مصرى رأسه خلف القناة ، ليحاول إعادة مطامع محمد على وعبد الناصر فى وحدة عربية.بذلك نعطى لأنفسنا مهلة طويلة لتصفية أجساد المبادئ الهدامة، لا فى مملكتنا فحسب ، بل وفى البلاد العربية ومن ثم بعدها ، لا مانع لدينا من إعطاء المعونات لمصر وشبيهاتها من الدول العربية إقتداء بالقول ( أرحموا شرير قوم ذل ) وكذلك لاتقاء أصواتهم الكريهة فى الإعلام.ـ سوريا هى الثـانية التى لا يجب ألا تسلم من هذا الهجوم ، مع اقتطاع جزء من أراضيها ، كيلا تتفرغ هى الأخرى فتندفع لسد الفراغ بعد سقوط مصر.ـ لا بد أيضا من الاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة ، كيلا يبقى للفلسطينيين أي مجال للتحرك ، وحتى لا تستغلهم أية دولة عربية بحجة تحرير فلسطين ، وحينها ينقطع أمل الخارجين منهم بالعودة ، كما يسهل توطين الباقى فى الدول العربيةـ نرى ضرورة تقوية الملا مصطفى البرازانى شمال العراق ، بغرض إقامة حكومة كردية مهمتها إشغال أى حكم فى بغداد يريد أن ينادى بالوحدة العربية شمال مملكتنا فى أرض العراق سواء فى الحاضر أو المستقبل، علما بأننا بدأنا منذ العام الماضى (1965) بإمداد البرازانى بالمال و السلاح من داخل العراق ، أو عن طريق تركيا و إيران.[c1]يا فخامة الرئيس[/c]إنكم ونحن متضامين جميعا سنضمن لمصالحنا المشتركة و لمصيرنا المعلق ، بتنفيذ هذه المقترحات أو عدم تنفيذها، دوام البقاء أو عدمه , أخيرا أنتهز هذه الفرصة لأجدد الإعراب لفخامتكم عما أرجوه لكم من عزة ، و للولايات المتحدة من نصر وسؤدد ولمستقبل علاقتنا ببعض من نمو و ارتباط أوثق و ازدهار.المخلص : فيصل بن عبد العزيز[c1]( ملك المملكة العربية السعودية )[/c][c1]من قراءة تلك الوثيقة يمكننا ملاحظة التالى :[/c]الخطة التى يقترحها الملك السعودى للعمل ضد الدول العربية تكاد تكون هى خطة الحرب الإسرائيلية فى يونيو 1967.زوال العرش السعودى عام 1970 إذا استمرت خطط جمال عبد الناصر واستمرت قواته فى اليمن ، والجدير بالملاحظة أن عبد الناصر هُزم عسكريًا عام 1967 م وتوفى عام 1970.عندما نشرت مقالى عن ( غياب عبد الناصر هل كان صدفة ؟) فى ديسمبر 2007،نشرت تلك الوثيقة ضمن المقال الذى كان يبحث لغز وفاة الرئيس عبد الناصر عام 1970 ، و تم نشر المقال على موقع الفكر القومى العربى ، وموقع منتديات الفكر القومى العربى ، وعندما قرأ تلك الرسالة/الوثيقة السيد ( سامى شرف ) سكرتير الرئيس عبد الناصر للمعلومات ووزير شئون رئاسة الجمهورية الأسبق قام بكتابة هذا التعليق عليها وهو تعليق منشور فى موقع منتديات الفكر القومى العربى :( كنت فى زيارة لإحدى البلدان العربية الشقيقة سنة 1995 وفى مقابلة تمت مع رئيس هذه الدولة تناقشنا فى الأوضاع فى المنطقة وكيف أنها لا تسير فى الخط السليم بالنسبة للأمن القومى وحماية مصالح هذه الأمة واتفقنا على انه قد حدث ذلك منذ ان سارت القيادة السياسية المصرية بدفع من المملكة النفطية الوهابية والولايات المتحدة الأمريكية على طريق الاستسلام وشطب ثابت المقاومة من أبجديات السياسة فى مجابهة الصراع العربى الصهيونى ، ولما وصلنا لهذه النقطة قام الرئيس العربى إلى مكتبه وناولنى وثيقة وقال لى يا أبوهشام أريدك ان تطلع على هذه الوثيقة وهى أصلية وقد حصلنا عليها من مصدرها الأصلى فى قصر الملك فيصل ولما طلبت منه صورة قال لى يمكنك أن تنسخها فقط الآن على الأقل وقمت بنسخها ولعلم الأخوة أعضاء المنتدى فهى تطابق نص الوثيقة المنشورة فى هذا المكان وقد راجعت النص الموجود لدى بما هو منشور أعلاه فوجدتهما متطابقين، أردت بهذا التعليق أن أؤكد رؤية مفادها ان عدوان 1967 كان مؤامرة مدبرة وشارك فيها للأسف بعض القادة العرب وقد يكون هناك ما زال بعد خفيا عنا مما ستكشفه الأيام القادمة )(انتهى تعليق السيد سامى شرف على الرسالة / الوثيقة).ـ فى الوثائق الإسرائيلية الخاصة بحرب يونيو 1967 والتى قام بترجمتها ونشرها الأستاذ محمد حسنين هيكل فى كتابه (عام من الأزمات ) ، أن الرئيس الأمريكى ليندون جونسون فى مايو 1967 وبعد أن تم تجهيز كل الخطط لضرب مصر ، أراد أن يستوثق من احتمالات غضب الشارع العربى على العروش العربية فى حالة شن إسرائيل الحرب على مصر وقد استقر رأيه بعد التشاور مع مساعديه على التوجه بالسؤال مباشرة إلى ملكين فى المنطقة تعتبر الولايات المتحدة عرشهما مسألة مهامة لأمنها القومى ، الملك حسين بن طلال فى الأردن ، و الملك فيصل بن عبدالعزيز ، وبالفعل قابل روبرت كومار مساعد الرئيس جونسون الملك حسين فى عمان يوم 28 مايو 1967 ، كما توجه ريتشارد هيلمز مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لمقابلة الملك فيصل بن عبد العزيز فى اليوم نفسه فى لندن التى كان الملك فيصل فى زيارة رسمية لها من أجل تخيير الحكومة البريطانية بين حلين :1 ـ تأجيل تنفيذ سياسة الانسحاب من شرق السويس ، واستمرار بقاء القوات البريطانية فى المنطقة لسنة كاملة على الأقل حتى يتمكن الجميع من ترتيب أوضاعهم ، وإلا فإن إتمام الانسحاب البريطانى فى المواعيد المعلنة ( عام 1968 كما أعلن رسميا من مجلس العموم البريطانى ) سوف يخلق فراغا يملؤه الجيش المصرى و يدخل إلى عدن ذاتها .2 ـ أن تبذل الحكومة البريطانية مساعيها لإقامة تجمع يضم كل دول شبه الجزيرة العربية و الخليج لكى يكون للمنطقة تجمع إقليمى تتمايز به عن الجامعة العربية ، ويكون للسعودية فيه دور مؤثر يوازى الدور المصرى فى جامعة الدول العربية التى يوجد مقرها فى القاهرة .ـ تمت المقابلة بين الملك فيصل وريتشارد هيلمز يوم 29 مايو 1967 فى جناح الملك فى فندق دورشستر وحضر المقابلة بين الملك وهيلمز السيد كمال أدهم مستشار الملك الخاص ومدير المخابرات السعودية وشقيق زوجته الملكة ( عفت ) ، أستمر الاجتماع من العاشرة مساء وحتى الثانية صباحا وقد تم تأمين مكان الاجتماع بواسطة خبراء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ، وعاد هيلمز عقب الاجتماع إلى واشنطن لإخطار الرئيس الأمريكى بما دار مع الملكـ يقول الأستاذ هيكل فى كتابه ( عام من الأزمات ) أنه فى ربيع عام 1985 تقابل مع السيد كمال أدهم فى بيته فى لندن وسأله عن لقاء الملك فيصل بريتشارد هيلمز يوم 29 مايو 1967 ، وهل كان الملك يعرف بالتدابير الأمريكية والإسرائيلية لمصر ولجمال عبد الناصر ؟ ورد عليه السيد كمال أدهم قائلا ( أسمع لست سياسيا مثل الآخرين أقول أى كلام و السلام ، ما سألتنى فيه لن أرد عليه ، ولكنى أريدك أن تعلم ، و أنا أقولها لك بمنتهى الصراحة ، صديقك الرئيس جمال كان فى مواجهة مفتوحة و عنيفة ضد المملكة ، والمعركة كانت سياسية و نفسية وأخيرا أصبحت عسكرية فى اليمن ، والملك فيصل مسئول عن مملكته ، مسئول أمام أسرته ، مسئول أمام أخوته و أبنائه يسلم لهم الأمانة كاملة كما استلمها ، واجبه واضح أمام العرش و الأسرة، و عليه أن يتصرف بما يحقق ( المصلحة ) وهذا هو كل شيئ وليس هناك شئ آخر، لا تستطيع أن تسائل الملك فيصل إلا فيما هو مسئول عنه ( العرش و الأسرة )، وهل نجح فى حمايتهما طوال حكمه أم لم ينجح ؟ و هل كانت المملكة أقل أو أكثر استقرارا عندما تركها عما كانت عليه عندما تسلمها ؟هذا هو المحك ، كان الخطر الأكبر علينا أيام ملكه هو صديقك الرئيس جمال وبالنسبة لنا فى المملكة فإن فيصل أنتصر فى التهديد الذى مثله علينا الرئيس جمال، ونحن لا نتعب رؤوسنا بكثرة الأسئلة و لا بالخوض فى الحكايات و التواريخ ) ويتابع الأستاذ هيكل روايته لتفاصيل اللقاء (وسكت السيد كمال أدهم وهو يشعر أننى أتابعه بتركيز شديد ثم قال : كنت صريحا معك لم أتكلم كلام سياسيين و لم أتكلم كلام رجل غامض كلمتك بصراحة و أنت حر فيما تفهمه مما قلت !).بقراءة كل تلك الوثائق سنتأكد بالفعل أن مساندة مصر لثورة اليمن ،ووجود جزء من الجيش المصرى هناك تسبب فى اطلاق كل كلاب الصيد للقضاء على تجربة جمال عبد الناصر.لم تكن مساندة مصر لثورة اليمن مصادفة أو قرارا عشوائيا بل كان لمصر دور بارز فى تفجير الثورة من الأساس،وكانت على صلات وطيدة بالخلايا السرية للضباط الأحرار فى الجيش اليمنى.كان قرار عبد الناصر بتفجير الثورة فى اليمن ومساندتها ودعمها عسكريا نابعا من رؤيته للأمن القومى المصرى،رأى عبد الناصر أن من يسيطر على فلسطين يهدد سيناء، ومن يسيطر على سيناء سيطر على قناة السويس ، ومن سيطر على القناة سيطر على مصر والبحر الأحمر،ومن سيطر على مصر سيطر على الوطن العربى كله.حدد عبد الناصر فى تقديره الاستراتيجى لموقف مصر فى نهاية عام 1952 الاتى:- تواجه مصر عدوين فى وقت واحد:بريطانيا فى القناة وإسرائيل على الحدود الشرقية- لا يمكن لأية مفاوضات سياسية مع بريطانيا للجلاء أن تنجح إلا بمساندة العمل الفدائي والعسكرى فى منطقة القناة.- مصر لن تتمكن من خوض معركة عسكرية ناجحة سواء كانت دفاعية أو هجومية ضد إسرائيل طالما ظلت القوات البريطانية متواجدة فى منطقة القناة تهدد خطوط مواصلاتنا نحو الشرق وتتحكم بها.- العدو الرئيسى فى الوقت الحالى هو قوات الاحتلال البريطانى والعدو الفرعي هو القوات الاسرائيلية.وبالفعل ينجح عبد الناصر فى توقيع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا عام 1954،وتتبعها الخطوة الثانية بتأميم شركة قناة السويس فى 26 يوليو 1956 ما أدى للعدوان الثلاثى على مصر، وبفشل العدوان أصبحت قناة السويس مصرية بالكامل،كما ألغى عبد الناصر معاهدة الجلاء واستولى على القاعدة البريطانية فى منطقة القناة،وبذلك تم تطهير المدخل الشمالى للبحر الأحمر،وبقى المدخل الجنوبى عند باب المندب ،وأصبح الطريق مفتوحا نحو الشرق فى سيناء للجيش المصرى دون تهديد بريطانى للقوات المسلحة المصرية، وأصبحت اسرائيل هى العدو الرئيسى لمصر الذى يتحتم مواجهته .صمم عبد الناصر على انهاء الاحتلال البريطانى للسودان أولا وبعد ذلك الدعوة لوحدة وادى النيل من خلال الاعتراف بحق الشعب السودانى فى تقرير مصيره،وعندما أختار الشعب السودانى الاستقلال والانفصال عن مصر بادر عبدالناصر بتأييد ذلك وسحب القوات المصرية من السودان تاركة أسلحتها الثقيلة هدية للجيش السودانى ما اضطر البريطانيون إلى سحب جيشهم لتتحرر السودان ،وبذلك اكتسبت مصر صداقة الشعب السودانى،وفتحت مجال العمل لها فى أفريقيا كلها باخلاصها والتزامها بتصفية الاستعمار فى القارة السمراء وحق تقرير المصير للشعوب الأفريقية،وفى عام 1957 أصبح الساحل الغربى للبحر الأحمر حتى كسلا ونهاية الحدود السودانية خاليا من القوات الأجنبية نهائيا.تحتل الصومال موقع استراتيجى مهم فى القرن الأفريقى لذا قرر عبد الناصر مساندة القوى الوطنية الصومالية ودعمها من أجل الحفاظ على مقومات الشخصية الصومالية بجذورها العربية والإسلامية ووحدة أراضى الصومال ،وقطع الطريق على إسرائيل التى كانت تريد توطيد علاقاتها الإقتصادية بالصومال لذا اتصلت مصر بكل الهيئات والتنظيمات السياسية الصومالية ودعمت التعليم فى الصومال بالكتب العربية، كما أمر عبد الناصر أن يفتح الأزهر أبوابه لاستقبال الصوماليين الذين توافدوا على مصر بأعداد هائلة ،كما تم إرسال بعثة أزهرية كبيرة للصومال لربط الشعب الصومالى بدينه الحنيف ،وهكذا عملت مصر على إرساء علاقات اقتصادية وعسكرية وثقافية وسياسية وطيدة بالصومال الذى نال استقلاله عام 1960 وأنضم لجامعة الدول العربية،وبذلك ضمنت مصر مكانها فى منطقة القرن الأفريقى وقطعت الطريق على إسرائيل ،لتتحكم فى المدخل الجنوبى للبحر الأحمر ثم اندلعت ثورة اليمن على الجانب الأخر من شواطئ البحر الأحمر (الساحل الشرقى) وكان الدور المصرى والوجود المصرى لدعمها وأصبحت مصر قادرة على التحكم فى مدخل البحر الأحمر الشمالى ومدخله الجنوبى وهو ما تحقق فعلا خلال حرب 1973 باغلاق مضيق باب المندب .وبرغم الهزيمة فى عام 1967 ومحاولات اسرائيل لزيادة وجودها فى البحر الأحمر ببناء مطارات فى سيناء،ونقل بعض الزوارق الحربية برا من موانيها فى البحر المتوسط إلى البحر الأحمر ،ومحاولتها سرقة بترول خليج السويس أو التدخل فى عملية فتح قناة السويس أجهضت السياسة المصرية فى عهد عبد الناصر كل تلك المحاولات ،وقامت مصر بنشر سفن أسطولها فى البحر الأحمر فى الموانئ المصرية وميناء بورسودان ،كما نشرت مصر قواتها الجوية فى مطارات السودان،ونقلت جزءاً من قواتها البرية إلى منطقة جبل الأولياء بالسودان ،وعندما أستأجرت إسرائيل حفاراً عملاقاً لسرقة البترول المصرى فى خليج السويس قامت المخابرات المصرية بتدميره قبل وصوله للبحر الأحمر .ورفضت مصر كل محاولات فتح قناة السويس قبل انسحاب اسرائيل من كل الأراضى العربية المحتلة عام 1967 وايجاد حل عادل وشامل لقضية الشعب الفلسطينى، بل أن الرئيس عبد الناصر رهن فتح القناة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم.يقول المفكر الكبير «جمال حمدان» فى أوراقه الخاصة :أن الرئيس جمال عبد الناصر هو (أول وللأسف آخر) حاكم يعرف ويفهم جغرافيا مصر السياسية وأن (الناصرية هي المصرية كما ينبغي أن تكون... أنت مصري إذن أنت ناصري... حتى لو انفصلنا عنه (عبد الناصر) أو رفضناه كشخص أو كإنجاز. وكل حاكم بعد عبد الناصر لا يملك أن يخرج على الناصرية ولو أراد إلا وخرج عن المصرية أي كان خائنا) لأن الناصرية في رأيه قدر مصر الذي لا يملك مصري الهروب منه.ويقول إن الناصرية (بوصلة مصر الطبيعية) مع احتفاظ كل مصري بحقه المطلق في رفض عبد الناصر لأن المصري (ناصري قبل الناصرية وبعدها وبدونها).لم تكن حرب اليمن سببا لمشاكل مصر ولم تكن هى سبب هزيمة 1967 بل كانت عملا عظيما يعكس بعد نظر ملموس لرجل دولة مهموم بقضايا أمته ،مؤمن بوحدة المصير العربى وبأن استقلال اليمن أو أى قطر عربى أخر هو جزء من استقلال مصر .وبرغم كل المؤامرات على الثورة اليمنية وبرغم كارثة يونيو 1967 قامت الجمهورية اليمنية وخرج الشعب اليمنى من حكم الامامة المتخلف، وهبت رياح التغيير على منطقة الخليج العربى،فاستقلت امارات الخليج كلها وأنتهى الوجود الاستعمارى في المنطقة، وحتى حكام السعودية أعداء عبد الناصر وخصوم الثورة اليمنية أضطروا لإدخال تعديلات وتحديثات على السعودية لتقيهم من رياح الثورة .وخرجت دولة اليمن الجنوبية إلى الوجود كدولة مستقلة ثم توحد اليمن الشمالى والجنوبى فى دولة واحدة، وبالسيطرة العربية على باب المندب تحقق حلم عبدالناصر وأصبح البحر الأحمر بحرا عربيا بحق.وبسبب وجود الجيش المصرى فى اليمن قرب منابع النفط ،غيرت شركات البترول من أساليب تعاملها مع حكومات البترول ومنحتها نصيباً أكبر من ثروتها المسلوبة.كل هذه الايجابيات جعلت الغرب الاستعمارى كله متحالفا مع الملوك العرب سواء فيصل السعودية أو حسين الأردن وحتى حسن المغرب فى أقصى غرب الوطن العربى يتكالبون على ضرب نموذج جمال عبد الناصر والاطاحة بنظام حكمه الوطنى فى مصر، وهو ما تحقق للأسف ولكن لسخرية القدر لم يتحقق ذلك عقب هزيمة 1967 بل بعد وفاة عبد الناصر وعقب نصر 1973 عندما سلم السادات كل أوراق المنطقة إلى صديقه الأمريكى اليهودى هنرى كيسنجر مدعوما بنصائح فيصل السعودية .وهو ما تعانى مصر منه حتى الآن فقد فقدت موقعها فى قيادة الأمة العربية، وفقدت أرصدتها فى القارة الأفريقية وأنكمش دورها فى حركة عدم الإنحياز،وأصبحت تواجه عزلة متزايدة فى ظل علاقات خاصة مشبوهة تجمعها بالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل منذ عام 1974 .ستظل مساندة مصر لثورة اليمن أحد أعظم أعمال الرئيس عبد الناصر ومصدر فخر دائم لمصر مهما كره الخونة والعملاء.
عبدالناصر والرئيس الراحل قحطان الشعبي
عبدالناصر مستقبلاً الرئيس علي سالم البيض عندما كان وزيراً للدفاع في الشطر الجنوبي من الوطن
عبدالناصر ملوحاً لجماهير الشعب اليمني في تعز
عبدالناصر محمولاً على الأكتاف
صورة من أول خبر نشر في الصحف المصرية عن ثورة 26 سبتمبر
عبدالحكيم عامر