المفكر الأميركي تيموثي ميتشل، واحد من الأصوات الغربية المعنية بتفكيك خطاب الاستعمار. وهو واحد من العارفين بالشأن المصري، وبطبيعة الصراع العربي- الاسرائيلي وله العديد من الدراسات في هذا الشأن.وقد أصدرت له دار ميريت هذا الأسبوع كتاباً بعنوان « دراستان حول التراث والحداثة» ترجمه بشير السباعي ، الذي ترجم له من قبل كتاب «استعمار مصر». تحمل الدراسة الأولى عنوان: «صناعة الأمة.. سياسة التراث في مصر» بينما تحمل الثانية عنوان: «الدراسات التابع ومسالة الحداثة». ويدرس ميتشل في الدراسة الأولى فكرة «الأمة المصرية» منذ بدايات القرن العشرين، والطريف أنه يتابع الحالة من خلال تفصيل بسيط يتعلق بقرية القرنة، أو «الجُرنة» في اللهجة الجنوبية المصرية، وهي سلسلة من النجوع في البر الغربي حيث مقابر الملوك والملكات الفراعنة، وإجراءات نقل القرية بعيدا عن الموقع الأثري. [c1]إثبات ونفي[/c]يرى ميتشل أن هناك مفارقة غريبة تتعلق بعصر الدولة الأمة، ذلك إنه من الأفضل لكي تثبت أنك حديث أن يكون بوسعك إثبات أنك قديم أيضا، ففكرة الأمة الحديثة المواكبة للعصر بحاجة إلى إنتاج ماض لها وتخيل أنها تعود إلى فترة زمنية متصلة. ومن أجل هذا الاتصال لابد من نسيان بعض عناصر تاريخ هذه الأمة: الهجرات، سلماً أو غزواً، العداوات الطائفية والعرقية..الخ، وهكذا يمكن تشييد التاريخ الواحد المشترك وهو أمر ضروري لسيرورة صوغ خليط من الناس في أمة متماسكة. وفي حالة مصر، كانت اللحظة التاريخية في النصف الأول من القرن العشرين تسير باتجاه «أمة مصرية» ولم يكن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1923 دون أثر في هذا المجال، وقد تزامن الاكتشاف مع حصول مصر على استقلال نسبي. وواصل العديد من الكتاب والأحزاب دعوتهم لبناء الشخصية المصرية استناداً إلى ماضيها الفرعوني. ولكن، لكي يكون هناك تاريخ مشترك، فلابد أن يكون هناك الخارجون عليه. وقد كان فلاحو «الجُرنة» منذورين لهذه المهمة الوطنية![c1]رؤية مختلفة لعمارة الفقراء[/c]كانت مصلحة الآثار قد تعرضت لحرج بسبب نزع جدار كامل من إحدى المقابر عام 1944 ولم تجد من كبش فداء سوى السكان المحليين في سلسلة نجوع الجرنة. وفي العام التالي كلفت الحكومة المصرية المهندس حسن فتحي ابن الأرستقراطية القاهرية ببناء قرية نموذجية بالمنطقة. وصمم حسن فتحي القرية من الطوب اللبن (المصنوع من الطين الغريني غير المحروق) مستخدماً العقود والأقواس والقباب الرحبة، في محاولة لاستحداث عمارة وطنية تعتمد على مواد البيئة، ومن سخريات القدر، أن مشروعات السدود على النيل في هذا العام تحديداً كانت قد سيطرت إلى حد كبير على مجرى النهر ومنعت تدفق الطمي الغريني، الذي يجدد التربة.لا ينظر ميتشل بتبجيل إلى عمارة حسن فتحي، بالضد من اتجاه شائع في الغرب. ومن أهم عيوب قرية حسن فتحي عجزها عن استيعاب التوسع في حجم الأسرة، إذ لا يمكن لساكنها أن يضيف طابقاً ثانياً لتزويج أحد أبنائه!وأمام عدم انتشار نموذجه، بل وهدمه لإقامة بناءات عادية مكانه كان حسن فتحي يصور أهل الجرنة على أنهم جهلاء، غير متحضرين، وعاجزين عن صون تراثهم المعماري. وهكذا كانت الجرنة هي الجماعة الخارجة عن الأمة (لصوص بشهادة الحكومة وغير متحضرين بشهادة المعماري الفذ). وهكذا سينظر إلى سكانها دوماً في الإعلام وفي السينما (فيلم المومياء لشادي عبدالسلام) وفي مسلسلات تليفزيونية حديثة، تتطابق مع ادعاءات حكومة، التي لم تبذل أي جهد مع الحكومات الأجنبية لتحريم تجارة الآثار.ويقول ميتشل إنه إذا كان صحيحاً أن بين سكان الجرنة من يتاجر في الآثار، ووصف باللصوصية، فلماذا لم يوصف المتحف البريطاني بلندن أو «المتروبوليتان» في نيويورك بأنهما متحفان لصان؟ويناقش ميتشل الادعاءات الأخرى التي تطلقها الحكومة بحق الجرنويين، وبيوتهم وبينها مزاعم مساهمة هذه البيوت في زيادة المياه الجوفية في المقابر، رغم أن ما يتمتع بالماء الجاري في المنطقة فقط هو استراحات بعثات التنقيب الأجنبية، كما أن أحداً لم يدرس بجدية أثر السكان المحليين قياساً بارتفاع منسوب المياه الجوفية في الوادي كله بسبب إنشاء السد العالي!كما أن هذه الحكومة الحريصة على الآثار تفاخر برفع عدد السياح في الأقصر وتسعى لجعل رقم المليون الذي وصلت إليه في ثمانينيات القرن العشرين خمسة ملايين، سوف يتعرقون ويعتصرون عرقهم داخل المقابر.[c1]من صناعة الأمة إلى عولمتها[/c]ويخلص ميتشل إلى أن المسعى إلى نقل سكان القرنة الذي بدأ كسعي لخلق أمة فريدة، يتواصل الآن ولكن لتحقيق اتجاه يتبناه الغرب في السياحة ببلدان العالم الثالث، وهو عزل السياح والتقليل من فرص احتكاكهم بأبناء البلد، فمن الباص المكيف إلى الفندق المكيف، والمطعم المكيف، مع نصف ساعة فقط للتسوق من البازار كحصة مدرسية. مؤكداً على أن هذا الاتجاه لاستهلال «التراث الميت» المعزول عن محيطه من سكان يتعرضون للتهجير لا يرضي السكان، ولا يرضي السياح الذين يتوق الكثير منهم إلى الهرب من الروتين السياحي، ويتركون أنفسهم لصبية يتصيدونهم ويقودونهم إلى بيوتهم ليروا كيف تصنع أمهاتهم الخبز البلدي.وإذا كان السائح يتدبر أمره بجنيه بقشيشاً للصبي، فإن السكان باحتجاجهم الهين يعرون العنف المستتر تحت المزاعم الحكومية.[c1]ضد الهيمنة الفكرية[/c]في الدراسة الثانية يتعرض ميتشل إلى فكرة الحداثة وعلاقتها بمدرسة دراسات التابع الهندية التي تخلقت حول مجلة بالاسم نفسه َِّّقفٌُّمَْ َُِّّّلىمَّ دشنها في عام 1982 المؤرخ الماركسي البارز راناجيت جوها.وقد كان اتجاه المجلة في البداية مقاومة اتجاه المؤرخين القوميين لكتابة التاريخ من زاوية التركيز على النخبة السياسية، والتركيز بدلاً من ذلك على دراسة الدور التاريخي للجماعات «التابعة» ، وقد جرت استعارة المصطلح من كتابات انطونيو جرامشي، إلا أنه مع الوقت تزايد عدد الباحثين الذين يهدفون إلى كتابة تاريخ الهند وغيرها في مناطق أخرى غير غربية بأشكال تخالف الرؤية التي تعتبر أوروبا محوراً ومركزاً للعالم. وقد تأثر باحثون مثل بارتها تشاتيرجي وجيان براكاش وهومي بابا بما بعد البنيويين الفرنسيين مثلميشيلفوكو وجاك دريدا، كما تأثروا بكتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق. وساعدوا على صوغ حقل النظرية بعد الكولونيالية الجديد، والتي تحاول مخالفة إضفاء الطابع العالمي على تاريخ الغرب للمرة الأولى، فرغم انتقادات المؤرخين القوميين والماركسيين للتناولات المبكرة للتاريخ الهندي، إلا أنهما وقعتا في مأزق كتابة تاريخ اللاغرب باعتباره جزءاً من تاريخ الغرب الكوني! كانت فكرة التحديث مرتبطة على الدوام بفكرة جغرافية وتاريخية واحدة هي الغرب، وأن التحديث سيرورة جرى إنجازها في الغرب، ومن هناك إلى مناطق أخرى، أي أن مصير اللاغرب يتوقف على محاكاة الغرب، وأياً كانت درجة نجاح الحداثة خارج الغرب فهي لاتعدو كونها محاكاة للغرب.[c1]بين الصانع والمصنوع[/c]الآن أصبح هناك العديد من الأصوات التي ترفض هذه الرؤية، مثل الباحثة جانيت أبو لغد التي تعتبر أن أوروبا الغربية لم تكن سوى جزء من منظومة أوسع للتجارة العالمية قبل وقت طويل من بدايات الحداثة الرأسمالية في القرن السادس عشر. ويعتبر ميتشل أن هذه النظرة تثير أسئلة آخرين فإذا كانت أصول الحداثة تكمن في علاقات التبادل والإنتاج حول العالم، فهذا يمكننا من اعتبارها نتاج التفاعل بين الغرب واللاغرب. وإذا كانت الهوية الحديثة للدولة قد استفادت من الرواية بوصفها تمثيلاً لنمط من الحياة يشابه حيوات قرائها، والصحيفة اليومية التي جعلت عددا كبيرا من البشر يتعرض للرسالة الإعلامية نفسها في ذات الوقت فإن أصول الهوية لم تولد في البلدان الأصلية بل في المستعمرات. [c1]* كاتب مصري - مدير تحرير جريدة «أخبار الأدب»[/c]
|
تقرير
الجُرنة القرية الخارجة عن الماضي المصري والحاضر العولمي!
أخبار متعلقة