مؤرخ يشدو بحب عدن
الأستاذ عبد الله محيرز ، مؤرخ عدن غاص في بحر تاريخها الواسع والعميق وتمكن بمهارة فائقة أن يستخرج الكثير من تراثها . اليوم نتصفح معا ــ أيها القارئ العزيز ــ كتابه القيم الذي يحمل عنوان (( صيرة )) ، الذي أعاد الروح والحياة والحيوية إلى المواقع الميتة لمدينة عدن القديمة ( كريتر ) . مؤرخ يشدو بحب مدينة عدنو نشعر ونحن نقرأ صفحات الكتاب أننا أمام مؤرخ فذ أو أمام موسوعة علمية جادة وقيمة تروي عن عدن القديمة وتراثها بكل تفاصيلها الدقيقة ، فكل شاردة وواردة في حياتها يدونها ويسجلها عبد الله محيرز في كتبه التي ألفها عن تلك المدينة الهادئة الراقدة في حضن البحر منذ الأزل , والضاربة جذورها في أعماق فجر الحضارة الإنسانية . والحقيقة ــ دون مبالغة ـــ أن عبد الله محيرز يمتلئ بأحاسيس متدفقة و فياضة ومشاعر صادقة , وعاطفة قوية تجاه تاريخ عدن وأهلها بصورة خاصة وتاريخ اليمن بصورة عامة . والحق أقول أن مؤلفاته التاريخية عن عدن ما هي إلا ( نوتة ) موسيقية تنساب منها أعذب وأشجى الألحان ... مؤرخ يشدو بحب عدن ، ويتغنى بزرقة سماؤها الصافية التي تستمد زرقة لونها من مياه بحرها العريض . وتغزل بجبل شمسان ، وجبل حديد، وسلسلة جبل المنصوري ، وصافحت عينيه بحب وشوق جبل صيرة ، وصهاريج عدن ، والعقبة وغيرها من معالم عدن الأصيلة . ولقد عاش تاريخ عدن في وجدانه وأحاسيسه. ولقد كان قلبه ينبض بحبها حتى آخر أنفاسه .. رحم الله أستاذنا العملاق أستاذ الجيل ، ومؤرخ عدن الكبير ، عبد الله أحمد محيرز . أسباب تأليف الكتاب والحقيقة أن الأسباب من وراء تأليف كتاب (( صيرة )) هو العمل على توثيق معالم عدن بعد أن زحفت عليها رمال الزمان والنسيان ، وإيقاع الحياة السريعة من كل مكان وصار أغلبها أثرا بعد عين , وكذلك أن عددا من معالمها لم توثق بصورة علمية سليمة أو بمعنى أدق أن يد البحث العلمي لم تمتد إليها مما سبب اضطراباً وتشويشاً في الكثير من معلوماتها التاريخية عند الغالبية من الناس وهذا في أحسن الحالات بل أن الكثير منهم يجهل تماما أصول جذورها التاريخية . وفي هذا الصدد ، يقول عبد الله محيرز : " هذا الكتاب واحد من سلسلة عن عدن ، قصد ت منها القيام بأبحاث مستفيضة متعمقة في بعض معالمها ، ومرافقها الاقتصادية ، والعسكرية ومحاولة لتعريف وتحديد مواقع مختلف عليها .. واجتهاد لوضع أسماء هذه المواقع في زمانها ومكانها ليقف تاريخ المدينة على أرضية صلبة من جغرافيتها ". صراع مع التطورويتطرق عبد الله محيرز إلى الأسباب التي تعيق الباحث والمؤرخ في البحث عن معالم عدن الأصيلة والأصلية وهي أن الكثير من الوثائق الخاصة بالمدينة قد فقد , ولم يعد في الإمكان الحصول عليها بعد أن طوحت به الريح والعواصف والمتغيرات الدائمة في ملامح المدينة . وفي هذا يقول : " وتقبل المدينة على نشاط مكثف من التغيير ، والتبديل شمل كل سهل وجبل فيها ، وثبت في أماكن أخرى في العالم أن الحرص على المعالم التاريخية والوقوف أمام التغيير حرب، وصراع مع التطور ، والاستثمار تتم الغلبة فيه أحيانا ــ مع الأسف ــ للأخير ". إحصائية سكان عدنويكشف المؤرخ عبد الله محيرز الستار عن إحصائية لسكان عدن القديمة بعيد الفتح العثماني لها بعامين (945 هـ / 1538 م ) ، فيقول : " أن الترك قاموا بإحصائية لعدن في سنة 947هـ أي بعد سنتين من انتزاعها من الطاهريين ــ وورد من ضمن ما ورد فيها ـــ أن عدد ديار أهل عدن ( ألف ) دار ، وعدد دكاكينها ألف ومائتي دكان " . ويضيف : " هذه النسبة التي تبدو ــ لأول وهلة ــ مبالغة في التقدير هي في الحقيقة أصدق تعبير عن وضع المدينة الذي يظهرــ بجلاء ــ نشاطها التجاري الذي تميزت به خلال تاريخها .. فإن أكثر دكاكينها يعكس كثافة السكان المتجول ، والطارئ ، أما من باديتها القريبة ، أو من العمالة التي يجذبها ميناؤها من بقية أنحاء اليمن أو الصومال أو الهند . ويعكس بالتالي نشاطها وغناها ولم تقتصر ــ هذه الظاهرة ــ على فترة معينة بل لازمتها في كافة الفترات التي ازدهرت فيها " . وينقل المؤرخ عبد الله محيرز عن ابن فضل العمري صاحب كتاب (( مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ، كيف كانت عدن تمور بالحياة التجارية والنشاط الاقتصادي مورا كبيرا؟. فيقول في ذلك : " واليها مجمع الرفاق وموضع سفر الأفاق ، يحيط بها من الصين والهند ، والسند ، والعراق , وعمان والبحرين ، والزنج ، والحبشة . ، ولا يخلوا أسبوع بها من عدة تجار ، وسفن ، وواردين ، وبضائع شتى ، ومتاجر منوعة والمقيم بها مكاسب وافرة ، وتجارة مربحة ، لا يبالي ما يغرمه بالنسبة إلى الفائدة ولا يفكر في سوء المقام لكثرة الأموال النامية ، ويعقب عبد الله محيرز على كلام ابن فضل العمري ، فيقول : " فلا غرو أن يفوق عدد دكاكينها ومطاعمها لتستقبل هذه الأفواج البشرية ". محتويات الكتاب والكتاب يضم ثلاثة فصول ، الأول عن بندر عدن ، ويحوي أبحاثا عن التسمية , والطبوغرافية ، والمنشآت على ساحل صيرة قديما . وعن أحياء المدينة . أما الفصل الثاني يصور الحياة الاقتصادية , والصراع العسكري الذي نشب على سواحل البحر الأحمر وخصوصا عند سواحل و موانئ اليمن وذلك من قبل البرتغاليين الذين حاصروها في ( القرن العاشر الهجري ) القرن السادس عشر الميلادي . ودور عدن في رفد الدخل القومي أو بمعنى أخر أن عدن كانت الخزانة العظيمة التي كانت تمول الدول المتعاقبة اليمنية المركزية التي دخلت في حظيرتها وبالإضافة عن نظام ميناؤها الإداري والملاحي . وبالنسبة للفصل الثالث والأخير من الكتاب ، فهو يخوض في الأحداث العسكرية التي وقعت في عدن وأثرها على صناعتها أو بعبارة أخرى أن الظروف السياسية والجغرافية التي أحاطت بعدن فرضت عليها عددا من الصناعات بشكل واضح وعلى سبيل المثال صناعة السفن ، والطرز المعمارية التي طفت على سطحها وهي بناء القلاع وغيرها من المنشآت الحربية المختلفة . معنى كلمة صيرة وكعادة المؤرخ الفذ عبد الله محيرز فإنه يبحث وينقب في بطون أمهات الكتب عن قضية معينة من قضايا التاريخ أو اسم أو علم مرتبط بتاريخ عدن ارتباطا وثيقا وله دور هام في أحداثها مثل اسم جبل صيرة ــ بكسر الصاد وتسكين الياء ــ فهو يعدد أسماء قيل عن جبل (( صيرة )) ويعرف مواقعها ، إذ يقول : " أطلق هذا الاسم على أكثر من جبل في اليمن أشهرها : صيرة عدن : جبل يقع وسط لجة من البحر ، وآخر في مخلا ف شرعب وسط مزارع وقرى .. بل أن الكلمة بصيغة المذكر اسم لجبل : علم ، أو اسم لجنس . فقد روى عن علي كرم الله وجهه أنه قال : " لو كان عليك دين مثل ( صير) لأداه الله عنك " وفسره ابن الأثير أن : ( صير ) اسم لجبل . ويرد في أرجوزة الرفيق النافع اسم ( صيرة ) لجبل في ميناء مسقط " . ويبحث عبد الله محيرز في القاموس أو القواميس اللغوية لعله يضع يديه على تفسير لكلمة ( صيرة ) أو يصل إلى أقرب نقطة من حقيقة تعريف كلمة ( صيرة) ولكنه يزيد من ذلك من حيرته حول اسمها ومعناها ، فيقول في هذا الصدد : " وتضيف القواميس للكلمة معاني أخرى لا تمت للجبال بصلة ، فيضيف القاموس ( الصير ) بأنها السمكات المملوحات ، والصيرة : حظيرة للغنم ، واسم المكان من الفعل ( صار ) ، فيقال له : ( صيرة ) ويمكن لبعض هذه المعاني القاموسية أن تتخذ تعليلا للاسم ولكن تعريفه بالتحديد أمر يتطلب مزيدا من القرائن أكثر من المعاني القاموسية ". جبل صيرة والمؤرخونوالحقيقة أن المرء يصدم ويتعجب ، بأن اسم جبل صيرة ــ بالرغم ـــ من شهرته حيث يعرفه الداني القريب والقاص البعيد في عدن بصفة خاصة واليمن بصفة عامة وهو ماثل وشاخص بهيبته و بهيكله الضخم يطل على المدينة منذ الأزمنة السحيقة والغابرة غير معروف أو بتعبير أدق يلف معنى أسمه الكثير من الغموض والاضطراب مثلما شاهدنا قبل قليل حول تعريف أسمه ، فنجد بعض المؤرخين القدامى يتخبط باسمه ــ أيضا ــ والبعض الآخر لا يذكره على الإطلاق في كتبه الجغرافية أو التاريخية مثل الهمداني ، أو المقدسي أو عمارة اليمني . وأكبر الظن أن اسم هذا الجبل أطلق عليه في وقت متأخر من تاريخ عدن . وفي هذا الصدد يقول عبد الله محيرز : " لا يرد هذا الاسم ــ صيرة ــ عند الهمداني في الصفة أو معاصره المقدسي في كتابه ( أحسن التقاسيم ) ، وأن تغنى الأخير بفرضة ( ميناء ) عدن وشهرتها. ولا يرد أيضا في تاريخ اليمن لعمارة اليمني ـــ الذي عاش حتى منتصف القرن السادس الهجري ــ وإن أشار ــ ضمنيا ــ إلى الموقع الذي ترسو فيه السفن عند الكلام على الجبل الأخضر الذي يشرف على صيرة ، والميناء الذي ترسو فيه السفن ". ويواصل حديثه ، قائلا : " ويرد في وثائق الجنيزة ( 530 هـ / 1135م) التي ربما عاصر عمارة اليمني نفسه كتابتها اسم صيرة : كجبل ، وجزيرة . وهي أول مرة ورد فيها الاسم مكتوبا فيما هو متوفر من وثائق ولكنها لا تطلقه على الميناء , ولكن على الجبل وحده ". حملة ملك قيسويحاول عبد الله محيرز جاهدا بصبر يحسد عليه تتبع معنى أسم صيرة . وهنا ربما كان مناسبا أن نورد ما ذكره عن الروايات التي ذكرت ما ذا يعني ذلك الاسم الذي أطلق على الجبل ؟ . ويتحدث عبد الله محيرز على الغزوة التي قام بها ملك ( قيس) ــ وهي جزيرة تقع على بحر عمان بهدف القضاء على ميناء عدن , وعودة الحياة التجارية والنشاط الاقتصادي إلى مينائها مرة أخرى ولقد حدث ذلك الغزو في عهد بني زريع الذين كانوا ولاة للصليحيين في عدن ـــ ولقد ذكرت وثائق الحملة اسم صيرة . وربما هنا كان مناسبا ، أن نورد ما ذكره عبد الله محيرز حول وثائق حملة ملك ( قيس ) على عدن والتي ذكرت فيها اسم صيرة ــ كما قلنا قبل قليل ــ ، إذ يقول : " تفيد هذه الوثائق أن السفن المهاجمة رست في ( مكلأ عدن ) أي في مينائها ، وأن جنودها نزلوا بصيرة ( الجبل ) بعد أن ملكوها ، وأهل المدينة في البر . أي على الساحل . كما يكرر أبن المجاور ــ بعد قرن تقريبا ـــ هذا التمييز أيضا إذ يفيد أن سفن الغزاة رست في مرسى عدن تحت جبل صيرة " ( *) . جبل صبر والأساطويتطرق عبد الله محيرز إلى وصف ابن المجاور لجبل صيرة , وكيف أن ذلك الوصف شابه الأساطير مثلما فعل المؤرخ بامخرمة المتوفى سنة ( 947 هـ / 1540 م ) في وصف ثغر عدن ، وفي هذا الصدد يقول : " ولعل ابن المجاور أول من أفرد فقرة عن وصف لهذا الجبل مشوبة ببعض الأساطير ، كما عمل ذلك بامخرمة في تاريخ لثغر عدن مع ذكر البئر التي تشتعل في قعرها النار ". عدن وأسماؤها المختلفةوفي سياق الحديث عن معنى اسم ( صيرة ) ، فإن عبد الله محيرز يذكر الأسماء العديدة التي أطلقت على عدن من قبل ابن المجاور وبامخرمة . وفي هذا الصدد يقول : " وينفرد ابن المجاور بوضع عدة أسماء لعدن غاية في الطرافة هي في الواقع أسماء لأبرز معالم صيرة من منشآت ، وخلافه ليطلقها على المدينة بأسرها ". ويضيف قائلا : " مكلأ صيره : عند التجار ، ساحل البحر كناية عن موقع المرفأ ، هتام : عند الهنود ، فرضة اليمن / الفرضة هي الجزء الخاص بالمرسى أطلقه على عدن كلها . دار السعادة . دار الطويلة . دار المنظر " . ويواصل الحديث عن تسمية عدن المختلفة والمتعددة ، فيقول : " وقد درجت المصادر التراثية على التعبير عن المدينة باسم ( ثغر عدن ) ، أو الثغر المحروس) وعلى مرساها . هذا الخليج تحت جبل صيرة ( البندر ) أما غيره من بنادر عدن يضاف إليها ما يميزها لها عنه . وعن بعضها البعض : كبندر حقات ، وبندر ضراس المجاور له ، وأطلقت صيرة على الجبل وحده كما هو الحال إلى اليوم " . ويمضي عبد الله محيرز في حديثه عن الأسماء التي أطلقت على الجبل وعدن معتمدا على المصادر الحديثة. فيقول : " وتجاوزت المصادر الحديثة فأطلق الاسم على الجبل والخليج نفسه وساحله ومع بقاء اسم الجبل كما هو إلى اليوم ، وتفنن الناس في تسمية هذا الخليج ، فسمي ــ كما سبق ـــ ( بملأ صيرة ) ، و ( البندر) . وهو اسم بقي إلى اليوم يطلقه شيوخ الصيادين على رأس صيرة نفسه . وأضيفت إليه أسماء أخرى بعد الاحتلال البريطاني فسمي بالخليج الأمامي ، والخليج الشرقي والخليج الداخلي كما أضيف إليه اسم رابع بعد أن أقيمت على ساحله المنشآت العسكرية بعيد احتلال الإنجليز للمدينة ( Regiment ) وحرفت هذه إلى ( الرزميت ) . وأطلق على الخليج ( خليج الرزميت ). وفي الواقع أقتصر هذا الاسم على نصفه الشمالي باتجاه سلسلة المنصوري . بينما استمر الناس بتسمية الجزء الجنوبي ( ساحل صيرة ) ". وبالرغم من الشرح والتفسير والتفصيل الدقيق عن تعريف معنى ( صيرة ) أو بعبارة أخرى لماذا سمي الجبل بـ ( صيرة ) الذي طرحها عبد الله محيرز على مائدة البحث فإن الاسم مازال غامضا ويلفه الاضطراب والألغاز حتى يوم الناس هذا . الميناء الحزينوالحقيقة أن موقع سفح جبل صيرة أو بعبارة أدق أن شاطئ صيرة ، كان في يوما من الأيام ميناء مشهورا تأتي إليه السفن من شتى بقاع العالم بمختلف أحجامها وأشكالها, محملة بشتى البضائع والسلع القادمة من الهند ، مصر ، الصومال ، شرق أفريقيا الشام ، المغرب ، والعراق . ، ولكنه اليوم نشاهده لا حراك فيه حيث لا يصلح لرسو السفن الضخمة والمتوسطة الحجم أو حتى الصغيرة منها . صار هذا المكان الذي كان ملء السمع والبصرــ وقتئذ ــ يستخدم لصيد الأسماك. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي الأسباب التي حولته من ميناء عميق ترسو فيه السفن الضخمة والكبيرة إلى ميناء خامد لا حراك فيه ، مستسلم لمقادير الزمان وتقلب الأحوال تطفو فيه قوارب صيد الأسماك الصغيرة المهترئة ؟ . وفي هذا السياق يطرح عبد الله محيرز نفس ذلك السؤال ولكن بصيغة أخرى ، إذ يقول : " فما هي التحولات البيئية ، والمناخية ، والجغرافية التي أدت بهذا الموقع الفريد أن يتحول في وقت قصير إلى سبخة تعجز أن تجابه التحديث التي يفرضها التطور الملاحي في العالم .. وما الذي حدث لهذا الميناء الشهير الذائع الصيت الذي صمد لعوادي الزمن ، ونافس أشهر الموانئ حقبا من الدهر ، وقاوم أعنف المعارك للسيطرة عليه ليتحول في نهايته إلى خليج بائس وحزين لاصطياد السمك ، بعد أن استضاف خلال تاريخه أضخم السفن ، وانقلبت فرضته( دار الجمارك ) التي أفرغت السفن حمولتها من فاخر اللباس ، وأغلى العطور ، وأثمن الجواهرفيه إلى رمال بنى عليها الاحتلال البريطاني المعسكرات ، والثكنات ". . وهذا ما طرحه محيرز من الأسئلة والاستفسارات العديدة حول كيف كان ميناء صيرة , وكيف صار ؟ أو حول التغييرات التي حدثت لميناء ( صيرة ) . أسباب التغييراتويرجح عبد الله محيرز إلى أن هناك أسباب عديدة ومختلفة جعلت هذا الميناء المشهور الذائع الصيت ــ كما مر بنا سابقا ـــ إلى ميناء يلفه الحزن والبأس والجمود ، فيقول : " يبدو أن خليج صيرة هو أحد هذه السواحل الذي بنى البحر لها ساحلا متغيرا مثلما حصل لموزع ( *) الذي كان ميناء في القديم ثم صارت مدينة بعيدة من الساحل أو ( العصلة ) في أبين التي كانت ميناء لها قديما في نهاية وادي حسان " . ويواصل حديثه ، فيقول : " ... تأثير السيول وما تجرفه من طمي لتبني شواطئ جديدة ، كما بني النيل دلتا مصر ، وما شابهها ، كما عمل وادي ( تبن ) ببناء المجراد والمكسر في ساحل عدن . ـــ والكلام مازال لمحيرز ـــ فلازال يلاحظ إلى اليوم شواطئ ساحل أبين وصيرة أيام فيضانات السيول , وقد أغبر لونها بكميات هائلة من الطمي الذي جرفته " . ويطرح محيرز سؤالا ، قائلا : " فهل زاد منسوب الفيضان في القرن الثامن عشر في ( الوادي الصغير ) في تبن ، ووادي بنا ، وحسان في أبين ليسبب هذا التغيير المتسارع للخليج ؟ ووصل ذروته في القرن التاسع عشر والعشرين؟. حقاتويزيح المؤرخ عبد الله محيرز الغبار عن معلم من معالم ثغر عدن المحروس لم نعرف تاريخه وإنما كل الذي نعرفه هو أسمه دون أن ندرك تاريخه أو رحلته مع التاريخ وهو ( حقات ) ، فيقول عنه : " وحقات اسم قديم يصعب تعليله بدقة ، وهو واد فسيح ، وساحل ، وخليج . أما الوادي فقد استعمله ملوك ونوابها موضعا لضيافتهم ونزههم ، وأقيم فيه موسم الخيل من كل عام بعد استعراضها أمام باب الطويلة في صيرة ( يبدو أنها كانت ساحة للعروض ). كما أقيمت فيها صلاة العيدين أحيانا ، وانتهى قبيل الاحتلال إلى مقبرة تحرق فيها الموتى ( الهندوس ) وأضيفت إليه مهام أخرى ، كمصحة ، ومحراق للقمامات ، ونفايات المدينة . وفي الخمسينات بنيت سينما ، ومسبح ومصنع لغاز ، ثم أضيف إليه مؤخرا قاعة فلسطين للمؤتمرات ، وميدان لتدريب الكرة " . دار السعادة ويتطرق عبد الله مؤرخ إلى معلم من معالم عدن التاريخية وهي ( دار السعادة ) التي كانت في يوم من الأيام ملء السمع والبصر والفؤاد , وصارت مع تعاقب الأيام والسنين أثرا بعد عين . فقد كانت في يوم من الأيام مقر سلاطين وملوك الدولة الرسولية ( 626 ــ 858 هـ / 1228 ــ 1454م) وكذلك سلاطين وملوك الدولة الطاهرية ( 858 ــ 945 هـ / 1454 ــ 1538 م ) وقبلهما كانت مقر بني زريع ولاة الصليحيين في عدن والذين استبدوا بحكمها قرابة 146عاما وانسلخوا من حكم الدولة الصليحية وذلك في عهد الملكة سيدة بنت أحمد الصليحي المتوفاة في سنة ( 532 هـ /1138 م ) , وفي تلك الدار استقبلت أخو السلطان صلاح الدين الأيوبي ، طغتكين الأيوبي . ولقد أجمع المؤرخين المعاصرين لها بأنها كانت من عجائب فن العمارة في عدن قاطبة . ولقد تفنن في بنائها البناءين اليمنيين تفنا رائعا , ولقد ذكر بعض المؤرخين القدامى أنها بنيت من المواد الرفيعة والغالية الثمن . ولقد جلبت لها الحجارة الملونة الأشكال من اليمن , والرخام من خارج اليمن , وقيل أنها صممت على الطراز المعماري الهندي وهذا دليل واضح على مدى التأثير الثقافي الهندي على عدن . موقعها الحالوكان موقعها بالقرب من جبل حقات وعلى وجه التحديد بالقرب من نادي التلال ومبنى ( الهجرة والجوازات ) حاليا. وحول ما وصفته المصادر التراثية المعاصرة لدار السعادة والغرض من استخدامها ، يقول عبد الله محيرز : " وتصف المصادر المتأخرة روعة هذه الدار ، وحسن بنائها . فقد كانت دار الإمارة في عدن يقيم فيها حكامها ، وينزل بها ملوك اليمن إذا زاروها " . من بناها ؟ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو من بنى ( دار السعادة ) ؟ . والحقيقة حاول عبد الله محيرز أن يعطينا الكثير من الآراء المتباينة والمعلومات المختلفة حول من بناها ولكننا لم نتوصل إلى الإجابة الواضحة والمحددة . وذلك شيء طبيعي نظرا أن فقدان الكثير المصادر التراثية المكتوبة عن تاريخ عدن يحول بين الوصول إلى الحقائق التاريخية . فهو يطرح أمامنا ما ذكره بعض المؤرخين اليمنيين القدامى حول من بنى تلك الدار التي كانت مقر سلاطين بني زريع وملوك بني رسول , والطاهريين ــ كما مر بنا سابقا ـــ فيقول ما معناه : " يذكر بعض المؤرخين أن من بنى دار السعادة هو طغتكين بن أيوب عندما قدم إلى عدن من مصر بأمر من أخيه صلاح الدين الأيوبي للقضاء على أخر جيوب النفوذ الفاطمي في اليمن , وأن الأيوبيين اهتموا اهتماما واسعا بميناء عدن و وقاموا بعدد من المنشآت الخاصة بتحسين الميناء على سبيل المثال الفرضة ( دار الجمارك ) وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى في كتابه ( الفتح العثماني الأول لليمن ) ، إذ يقول : " ومن المعروف أن الأيوبيين قد اهتموا بتنمية ميناء عدن بعد دخولهم إلى اليمن ، فارتفعت إيراداته إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه في العهد السابق عليهم " ( 1 ) . ويمضي عبد الله محيرز في حديثه ، فيقول : " وتختلف المصادر في فترة بنائها أو من بناها ففي الوقت الذي يرى ابن المجاور إنها من بناء طغتكين بن أيوب . يرى بامخرمة التوفيق بين كافة الآراء المطروحة بأنه ربما بنتها عائلة مصرية ــ مجهولة هويتها ـــ يدعوا ببني الخطباء ، ثم تملكها طغتكين بن أيوب في أواخر القرن السادس، وجددها المجاهد ألرسولي في منتصف القرن الثامن الهجري " . عدن دار صناعة السفنوفي مشهد من مشاهد الكتاب نرى سفن بمختلف الأحجام والأشكال ترسوا على مرسى صيرة , والعمال المختصين ببناء السفن يقومون بترميمها وإصلاحها . ولقد روت عدد من المراجع التاريخية بأن الكثير من السفن كانت تأتي من الهند ، وشرق أفريقيا إلى مرسى صيرة لصيانتها بسبب مهارة عمال عدن التي ذاعت شهرتهم في البلدان المجاورة لهم . أين الأسطول البحري ؟ويتساءل عبد الله محيرز عن السبب وهو لماذا لم يوجد أسطول بحري قوي لدى الدول المركزية اليمنية التي تعاقبت على حكم اليمن ؟ ومنها الدولة الصليحية علما بأنه كان لديها في عدن دار صناعة مشهورة لبناء السفن. ويرجع ( محيرز ) سبب ذلك ، بقوله بما معناه : " أن الدولة الصليحية كانت ترتبط مع مصر الفاطمية بعلاقة مذهبية قوية , فتركت مهمة حماية ثغورها البحرية المطلة على البحر الأحمر والبحر العربي للدولة الفاطمية , ولذلك لم تكترث في بناء أسطول بحري ومن ناحية أخرى أن بناء أسطول بحري يحتاج إلى أموال طائلة من الصعب أن توفرها خزانتها " وعلاوة على ذلك أن الدولة الصليحية وغيرها من الدول المركزية التي أشرقت شمسها في سماء الحياة السياسية في اليمن , كانت قوتها تكمن في البر بسبب أن طموحها كان ينحصر على بسط نفوذها السياسي على المناطق اليمنية فحسب , ولم تتعد طموحها إلى ما وراء البحار " . في عهد السلطان عامرويضيف قائلا : " والحقيقة أن الدول التي تعاقبت على حكم اليمن لم تعط اهتماما بتكوين أسطول بحري قوي ـــ كما مر بنا سابقا ـــ مثل الدولة الطاهرية بل أن أعظم سلاطينها السلطان عامر بن عبد الوهاب المقتول سنة ( 923 هـ / 1517 م ) الذي حكم اليمن لمدة 28 عاما عندما هاجم الإفرنج البرتغاليين سواحله وموانيه لم يحرك ساكنا أو بالأحرى لم يجهز أسطولا بحريا يعمل على الوقوف ضد الأسطول البرتغالي الذي كان يذرع البحر الأحمر مجيئا وذهابا بحرية تامة . وعندما حاول السلطان الملك ( عامر ) أن يجهز أسطولا بحريا لمقاومة الإفرنج البرتغاليين وفك الحصار الذي ضربوه على موانئ اليمن . كان ذلك الأسطول هزيلا وسرعان ما قضى عليه الأسطول البرتغالي في عرض البحر . ويذكر المؤرخ ابن الديبع المتوفى سنة ( 944 هـ / 1537 م ) في حوادث سنة ( 912 هـ ) حول تجهيز السلطان عامر بن عبد الوهاب الطاهري حملة بحرية لمقارعة الإفرنج البرتغاليين , وكان عدد السفن 14 سفينة وفيها ستمائة من المقاتلين ولكن أخبار تلك الحملة لم يسمع عنها بعد ــ كما قلنا سابقا ـــ فقد قضى عليها الأسطول البرتغالي في عرض البحر ( 2 ) . وكيفما كان الأمر ، يبدو أن دار صناعة السفن في عدن كانت تقوم ببناء السفن التجارية , وترميمها وإصلاحها . وكان في الإمكان أن تستفيد منها الدول المركزية التي تعاقبت على حكم اليمن في إنشاء أسطول بحري قوي لها. ويبدو أنها كانت دولا برية أكثر منها بحرية أو بالأحرى أنها لديها دراية كبيرة على الكر والفر في البر بخلاف القتال في البحر . ومن المحتمل أن سلاطين تلك الدول لم تحتل مشروع تأسيس أسطول بحري مساحة واسعة وعريضة في تفكيرهم أو بمعنى أدق لم تخطر في بالهم قط تكوين أسطول بحري قوي يحمي سواحلهم وموانيهم . حي الحسين والصوفيةونشاهد في أحدى صفحات الكتاب حي الحسين , وقد امتلأت في كل مكان فيه الرباطات وزوايا الطرق الصوفية وعلى سبيل المثال القادرية ، الأحمدية , الرفاعية والشاذلية وكان من أتباعهم ومريديهم من يطوفون شوارعها وأزقتها حاملين راياتها الخاصة بها . وكانت بين الحين والأخر تقع تصادمات بين أصحاب تلك الطرق الصوفية المختلفة . وكانت الطريقة الشاذلية أكثر الطرق الصوفية هيمنة على مدينة عدن حيث كان لها أتباع ومريدون كثيرون ، مما دفع بالطريقة الأحمدية الانتقال إلى مدينة الشيخ عثمان واستطاعت بالفعل أن تكون لها قاعدة صلبة وواسعة من المريدين هناك . الثقافة الصوفيةوالحقيقة أن الثقافة الصوفية انتشرت انتشارا واسعا في عدن كانتشار النار في الحطب وذلك في ( القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين ) ( السادس والسابع عشر الميلاديين) وصارت شيئا هاما بين مختلف الفئات الاجتماعية وخصوصا بين العلماء والوجهاء والأمراء ، وأغلب الظن أن أولئك العلماء والأمراء كانوا يريدون أن يكسبوا العامة إلى صفهم ويدخلوهم إلى جناحيهم وذلك من خلال الانتماء إلى الطرق الصوفية . وهذا ما أكده الدكتور عبد الرحمن شجاع الدين في دراسته التي حملت عنوان (( ثغر عدن في قلادة النحر )) عندما كان يدرس حياة المؤرخ بامخرمة العلمية أو بمعنى أخر المؤثرات الثقافية التي أثرت على حياته العلمية والفكرية ، إذ يقول : " ولعل بامخرمة لم يخرج عما ساد وشاع في عصره من تصوف سواء في اليمن أو خارج اليمن . فقد صار الانتساب للتصوف جزءا هاما من شخصية الأمراء والوجهاء والعلماء " (3) . ويقول عبد الله محيرز عن حي الحسين والذي كان يسمى حي ( الشاذلي ) قديما : " ويتميز هذا الحي بأنه حي العلماء ، والفقهاء ، والقضاة ، والمدارس ، والتجار الذين ارتأوا مجاورة هذه النخبة والاحتكاك بها " . ويعطينا عبد الله محيرز معلومة قيمة في عهد من نشأ هذا الحي ( الشعبي ) وأكتمل ، فيقول : " وهو لا شك كحي حسين , حي طارئ . كان جزءا من التوسع في منتصف الدولة الرسولية . وأكتمل في الدولة الطاهرية , وفي أيام عزها ، ثم أنكمش في أواخرها " . رباط الشاذلوحول سبب تسمية حي الحسين قديما باسم حي الشاذلي ، فيقول عبد الله محيرز ما معناه " سمي الحي بالشاذلي بسبب وجود الطريقة الصوفية الشاذلية فيه ". ولكن هناك رواية أخرى تقول : " ترجع عمارة مسجد حسين الاهدل إلى العقد الثاني من القرن التاسع للهجرة النبوية ( القرن التاسع عشر الميلادي )، وقد قام ببنائه الرجل الصالح الفقيه علي بن عمر الشاذلي اليمني صاحب المخى ( المخاء ) , ولذا كان يسمى برباط الشاذلي نسبة إليه " ( 4 ) . الــــــهوامـــــــــش : عبد الله أحمد محيرز ؛ صيرة ، الطبعة الأولى ، عدن في مايو 1991 م . ** موزع : تقع جنوب شرق ميناء المخا. ومن أشهر قبائلها الأهمول ، العواشقه ، المقيصع ، العقمه ، الأشيمه ن المصفرية . المرجع : إبراهيم أحمد المقحفي ، الجزء الثاني . دار الكلمة للطباعة والنشر والتوزيع سنة الطبعة (4 142هـ / 2002 م ) . ( 1 ) سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الاول لليمن 1538 ــ 1635 م ، معهد البحوث والدراسات العربية ، جامعة الدول العربية ، سنة 1969 م . ص 30 . ( 2 ) ابن الديبع ؛ الفضل المزيد على بغية المستفيد ، تحقيق : الدكتور يوسف شلحد ، مركز الدراسات والبحوث اليمني صنعاء ، ص 300 . ( 3 ) الدكتور عبد الرحمن الشجاع ؛ ثغر عدن في قلادة النحر ، ندوة بعنوان : " أوضاع عدن السياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ عام 856 هـ وحتى عام 1354 هـ"، أقيمت في جامعة عدن من 27 ــ 28 ديسمبر 2005 م . ( 4 ) دراسة بعنوان (( الجمع الأشمل لتاريخ مسجد الإمام حسين الأهدل ؛ جمعه: عبد القادر بن عبد الله علي المحضار ، سنة 1424 هـ / 2002 م .