أزمة التحديث في العالم العربي
تعطلت محاولات التحديث المتكررة في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر، وتعود تلك العطلة إلى جملة عوامل بنيوية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، ولكنّ العامل الأهم تمثل فيمن تنطح لقيادة عملية التحديث على أنها مجرد توطين للمنتجات والمنجزات المادية للحداثة في البيئة العربية ، دون الاهتمام الكافي بإعادة بناء المجتمعات العربية بالاستفادة من معطيات الحداثة ومكوناتها العقلانية، التي تضمن توطين قيم الحداثة في التربة العربية .عرض وتحليل / سمير سليمان كشفت التجربة العربية المعاصرة عن إفلاس أخلاقي وفكري عميق في بنية السياسات العربية، فقد بدا واضحا للعيان مدى الانحدار السياسي والأخلاقي الذي وصل إليه الواقع العربي، بالإضافة إلى العجز الكامل عن استيعاب التطورات الدولية وما يترتب عليها من تحديات مصيرية للمنطقة العربية وشعوبها وحتى حكوماتها، إلى جانب فقدان الشفافية والصراحة في تعامل صنّاع القرار مع شعوبهم . فالمشهد السياسي في العالم العربي لا يدل على خير ونجد أن معوقات الإصلاح كثيرة منها أنظمة الحزب الواحد، أنظمة انتخابية ملتبسة وغير عادلة تؤدي إلى نتائج غالبا ما تصل إلى 99 ، سيطرة الأجهزة الأمنية وتدخلها في الشئون الحياتية اليومية وفي الحياة المدنية، جهل بأحكام القانون، قضاء غير مستقل تتحكم فيه السلطة التنفيذية لأغراض فئوية، غياب حرية التعبير والتجمع السلمي، التعدي على الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع، انعدام الشفافية في الإدارة والاقتصاد . وحول هذا الموضوع صدر مؤخرا كتاب "الدولة العربية في مهب الريح: دراسة في الفكر السياسي عند برهان غليون" تأليف عبد السلام طويل تقديم د. نيفين مسعد عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان وهو هيئة علمية وبحثية وفكرية تستهدف تعزيز حقوق الإنسان في العالم العربي وذلك عن طريق الأنشطة والأعمال البحثية والعلمية والفكرية والكتاب يعد سلسلة اطروحات جامعية، ويقع في 481 صفحة.ولا تتأتى اهمية ـ فحسب ـ من القدرة والدقة اللتين عالج بهما الطويل موضوعه، بل تتأتى من ذلك التوقيت الصارم والدقيق الذي تتبدى فيه الأمة العربية أحوج ما تكون إلى إعادة النظر في الأسس التي قامت عليها، وكيفية معالجاتها سواء كان ذلك يتعلق بأبعادها الثقافية والمعرفية أو يتعلق بالبنيات الاجتماعية التي تخلفت عنها، لذلك يمكن القول ان أهم فصول الكتاب هي تلك التي تناولت مشروعية الدولة وأزمة الديمقراطية ومحدداتها، وكذلك ما قدمه عبدالسلام الطويل فيما يتعلق بظاهرة الاستبداد، بالاضافة ـ طبعا ـ الى القراءة المعمقة لجدل العلاقة بين الدين والسياسة، ومأزق العلمانية كبديل ديمقراطي وكذلك الموقف من الحركة الإسلامية، وتلك الاشارة لا تنكر ـ بالقطع ـ الأهمية البالغة التي تنعقد على الفصل التمهيدي والفصل الأول للأطروحة حول اشكالية التحديث السياسي في الفكر العربي المعاصر، وهو الفصل الذي تناول مفهوم الحداثة من وجوه مختلفة لكنه ذلك التناول المجرد الذي يحيل الى العمل النظري المحض، وكذلك الفصل الأول الذي تناول فيه الطويل إشكالية الحداثة والموقف من التراث عند برهان غليون. ومن الكتاب نقرأ أن العالم العربي يعيش حالة من التأخر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، وتختلف الآراء حول أسباب هذا التأخر : فهل العرب مسئولون عنه أم أنّ أعداءهم في إسرائيل والغرب يتحملون مسئوليته ؟، ومن البديهي أنّ هذا السؤال الأساسي قد تعقد وتشعب مع دخول ديناميكية التحديث منعرجا حاسما في العقد الأخير من القرن المنصرم، بانبثاق ظاهرة العولمة الاقتصادية وانعكاساتها الثقافية والمجتمعية وتأثيراتها على الرهان السياسي وطبيعة المنظومة السلطوية وشكل الدولة . المؤلف عبد السلام الطويل هو باحث مغربي حاصل علي الإجازة في الحقوق شعبة القانون العام من جامعة القاضي عياض بمراكش، كما أنه حاصل على دبلوم الدراسات العليا في العلوم السياسية من معهد البحوث والدراسات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، جامعة الدول العربية، دبلوم الدراسات العربية العليا في الإعلام من القاهرة وغيرها من الشهادات. كما ساهم عبد السلام الطويل في العديد من الكتب الجماعية نذكر منها مفهوم الحرية بين ناصيف نصار وعبد الله العروي، العلوم السياسية وواقع تدريسها بالمغرب، وغيرها من المؤلفات.و الكتاب يدور موضوعه حول "التحديث السياسي في الفكر العربي المعاصر..برهان غليون نموذجا" حيث يتناول المؤلف من خلاله جملة إشكاليات تفرض نفسها بقوة علي الساحة السياسية العربية مثل إشكالية الحداثة والموقف من التراث، العلاقة بين الديني والسياسي، الدولة وخصائصها، وأخيرا إشكالية الديموقراطية.أما من هو برهان غليون فنجد أنه أستاذ علم الاجتماعي السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس، حاصل على دكتوراه الدولة في العلوم الإنسانية وأخرى في علم الاجتماع السياسي. قام بوضع العديد من المؤلفات بالعربية والفرنسية أهمها: بيان من أجل الديمقراطية، المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، مجتمع النخبة، اغتيال العقل، نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة، الوعي الذاتي، ما بعد الخليج، نقد السياسة الدولة والدين، المحنة العربية، الدولة ضد الأمة، حوارات من عصر الحرب الأهلية، حوار الدولة والدين مع سمير أمين، العرب ومعركة السلام، العالم العربي أمام تحديات القرن الواحد والعشرين، النظام السياسي في الاسلام، العرب وتحولات العالم، إضافة إلى العشرات من المؤلفات الجماعية ومن الدراسات والتحليلات السياسية والاجتماعية المنشورة في المجلات العلمية والصحافة اليومية.[c1] هل يبدأ التحديث من السياسة؟[/c] توضح د. نيفين مسعد في تقديمها للكتاب أن مما يزيد من أهمية هذا الكتاب فضلا عن مضمونه هو توقيت إصداره حيث يأتي هذا الكتاب في وقت يتصاعد فيه الجدل والنقاش حول فشل الدول العربية في أداء وظائفها بما في ذلك وظيفتها الأهم وهي حماية الاستقلال، إضافة لتناوله المشروع الفكري لأحد أبرز المتخصصين في النظم السياسية المقارنة علي مستوي الوطن العربي هو برهان غليون ،يضاف إلى ذلك كون برهان مثقفا يجمع بين ثقافتين هما الثقافة العربية واللاتينية. يبدأ الكتاب بفصل تمهيدي بعنوان "إشكالية التحديث السياسي في الفكر العربي المعاصر: الإطار المفاهيمي والسياق التاريخي" وهو الفصل الذي يوضح أن قضية البناء الاجتماعي والسياسي والإقتصادي والثقافي شكلت هاجسا دائما عند مفكري عصر النهضة العربية خصوصاً بعد أن لمس بعضهم تلك الهوة الحضارية الشاسعة التي باتت تفصل بين عالم إسلامي "متخلف" وعالم غربي "متقدم" كما يشير الكتاب. وهو الأمر الذي أدى إلى تفكير عميق في سبل التقدم والبعد عن أسباب التخلف والقضاء عليها، فوجدوا في أوروبا عصر الثورة الصناعية وفلسفة التنوير موردا ينهلون منه ما يبدو لهم ضروريا ومناسبا لواقعهم العربي، ومن ثم فالكاتب يؤكد في هذا الفصل على أن الفكر العربي الحديث تمحور أساسا حول إشكالية سياسية تم من خلالها النظر إلي كل القضايا التي تهم المجتمع، اجتماعية كانت أم اقتصادية أم تربوية أم ثقافية، الأمر الذي جعل مسألة التحديث السياسي تحظى بأهمية مركزية في تاريخ العرب الحديث والمعاصر.[c1] مفهوم الحداثة والتحديث[/c]في مقدمة الفصل التمهيدي يشير المؤلف عبدالسلام الطويل الى ان ثمة إجماعاً ينعقد على اعتبار الاستبداد بكل أشكاله جرثومة التخلف، وإن تعددت الرؤى حول كيفية معالجة هذا الاستبداد عند الفرق المختلفة.كما يشي الباحث نفسه، الذي يستعرض مفهوم الحداثة في بعده الغربي وكيف استقبلته النخبة العربية بسجالاتها الواسعة التي دارت حوله، ثم يفرق ايضا بين الحداثة والتحديث ويعود في هذه التفرقة الى عدد من أبرز الأسماء العربية والاجنبية ويقول: الملاحظ أن التمييز بين الحداثة والتحديث يكاد يلازم كل الدراسات الجادة في حقل الثقافتين العربية والغربية رغم ما يعتريه من تباين وغموض وعدم تحديد، فمحمد أركون يعتبر أن هذا التفريق بين الحداثة والتحديث لازم وضروري لأنهما يحيلان الى مصطلحين غير متطابقين فالحداثة هي موقف للروح امام مشكلة المعرفة انها موقف للروح من كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل الى معرفة ملموسة للواقع، أما التحديث فهو مجرد ادخال آخر المخترعات الاستهلاكية واجراء تحديث شكلي أو خارجي لا يرافقه أي تغير جذري في موقف المسلم من الكون والعالم، ثم يتناول الباحث جدلية المفهوم نفسه لدى هشام شرابي ورشيد العلمي وآلن تورين ومارشال برمان يورجن هابرماس، ثم يتناول الخصائص الكبرى للحداثة والتحديث، فعلى المستوى التحديثي السياسي يرى عبدالسلام الطويل أن الحداثة هي انتقال بالهياكل السياسية الى نوع من العصرنة أو عقلنة السلطة حسب تعبيره، ويرى الطويل أن ذلك يعني تحديد الوظائف الأساسية للدولة وبناها عبر نظم الإدارة وتوزيع مسؤولياتها، كذلك يضيف عنصر توسيع المشاركة السياسية كأحد شروط التحديث السياسي لكنه يتوقف مليا أمام بعض دعاة التحديث الغربي لا سيما صمويل هنتنغتون بسبب تجاوزه مفهوم ماركس حول الوعي الطبقي الى توسيع رقعة هذا الوعي ليتقاطع مع فئات من طبقات مختلفة. ويتناول ايضا الحداثة وما بعد الحداثة، ويشير بداية الى ذلك الغموض والتشوش غير اليسيرين اللذين يحيطان بمفهوم ما بعد الحداثة لكنه ينقل لنا أهم تلك الخصائص التي تميزها فيما يتعلق بردتها عن الحداثة وانطوائها ـ حسب تعبيره ـ على تيار فلسفي ما بعد بنيوي ظهر في فرنسا، ثم يتناول المؤلف السياق التاريخي للحداثة، ثم يخص الحداثة العربية بجانب غير يسير من حديثه. وفي هذا الفصل أيضا يوضح المؤلف أن كلمة الحداثة تتحدد معانيها بحسب سياقاتها في الاستعمال اللغوي، فقد تنحصر في دلالتها الزمنية لتعني المعاصرة، كما أنها قد تعني التغير والتطور في الأفكار، وفي ميدان الأدب والفن تكاد تطابق معاني الإبداع والابتكار، أما في الاستعمال اليومي الشائع فهي لا تتجاوز معني الموضة أي الجودة الشكلية بغض النظر عن مضمونها ووظيفتها. وفي هذا الفصل يؤكد المؤلف أن مفهوم "مابعد الحداثة" post - modernisme يتميز بقدر غير يسير من الغموض والتشويش، حيث يجري إطلاقه على الكثير من الأمور المتناقضة لدرجة انه يبدو بلا معني.يشير مفهوم الحداثة والتحديث كما يوضح الكتاب إلى عملية التأقلم والتكيف الجماعي مع الحضارة الحديثة"، أما عن أهم محددات الحداثة عند غليون فيوضح المبحث الثاني أن "لكل فعل محددات وتجليات، أما المحددات فقد تكون دوافع داخلية بيولوجة أو سيكولوجية، شعورية أو لا شعورية، وقد تكون تنبيهات أو تأثيرات خارجية أما التجليات فهي المظاهر والكيفيات التي يتحقق الفعل فيها أو من خلالها أو بواسطتها"، ولعل أبرز هذه المحددات كما يشير الكتاب هي العقلانية، الأخلاق، الثقافة، الهوية والعولمة. ثم يجيء المبحث الثالث ليوضح أن التراث لدي غليون يتحدد بكونه ذاكرة الأمم والشعوب ومرآة تاريخها أي مستودع خبرتها التاريخية فهو "الرأسمال الخاص الذي تملكه كل جماعة والذي يتركه لها الأجداد للتعامل مع التاريخ".ويوضح الكتاب أن مفهوم غليون للتراث لا يقتصر على التراث الماضي، وإنما يرتبط أشد الارتباط بالحاضر، ولذلك نجده يتحدث عن تراث الحداثة، وتراث الحضارة المعاصرة مؤكدا أن "اكتساب التراث الحضاري الجديد ليس شرطا أساسيا للدخول في التاريخ المعاصر فحسب، ولكنه شرط أساسي أيضا لإعادة الفاعلية والقيمة والجدة للتراث القديم، ويؤكد المؤلف أنه هكذا يتأكد التفاعل الخلاق بين التراثين القديم والحديث ويصبح مصير الأمم رهن بمقدرتها على أن تجعل من تراثها رأسمالا قابلا للتوظيف في عمليات التجديد والتحضر الكبري.وعلى هذا فإن أزمة الذاتية العربية تنبع من انهيار التوازن وانقطاع العلاقة بين التراث المحلي وتراث الحضارة المعاصرة، وبين انعدام القدرة علي بناء إجماع عام حول نموذج هذا التركيب الجديد والضروري بين التراث والحداثة، حيث يؤدي هذا الانقطاع إلى فصام في الوعي يشل الإرادة ،وإلى استقطاب عنيف بين أنصار الحفاظ علي التراث وأنصار التعلق بتراث الحداثة، كما أن وجود أحدهما يقتضي لا محالة موت الآخر، ومن ثم فلا مخرج من هذه الأزمة كما يشير الكتاب إلا عندما يتم إدراك أن التراث الماضي كالتراث الحاضر ليس شيئا جامدا ولا قيمة ثابتة، ولكنه رأسمال حي يستمد قيمته من أسلوب استخدامه ومن مغزي الهداف التي يحيا لتحقيقها.[c1]العلاقة بين الديني والسياسي [/c] يقول المؤلف في مقدمة الفصل الثاني للكتاب الذي يحمل عنوان "إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي عند غليون" إن إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي في الفكر السياسي عموما والفكر السياسي العربي علي وجه الخصوص تكتسي أهمية خاصة، بالنظر إلي موقعها وتأثيرها الحاسم في تحديد طبيعة وهوية مشروع التحديث السياسي والحضاري العربي في الحاضر والمستقبل، خصوصاً وأن العلاقة بين الدين والسياسة ليست بالعلاقة النمطية أوالنهائية، أي ليست بالعلاقة المحسومة ابتداء. فقد اكتسبت العلاقة بين الدين والسياسة أبعادا مختلفة علي مستوي الرؤيا والمنهج وحقول المقاربة، فمن قائل بالفصل بينهما وداع متحمس له، إلى قائل بالدمج الوثيق بينهما، إلي مكتف بالدعوة إلي إقامة نوع من التمايز الوظيفي بين طرفي هذه المعادلة، موضحا أن تحديد العلاقة بين الدين والسياسة، أو ما يبدو أنه صدام بين الدين والسياسة والتأويلات المتعددة والمتباينة للمواقف والقيم الدينية والسياسية معا تقف في صدارة المشكلات التي تعيشها المجتمعات العربية الإسلامية وتشكل المصدر الأول والأهم لكل الانشغالات العامة والفردية لكل من يجعل همه التأمل في المصير القومي أو المشاركة في تقريره. وللوقوف علي تفاصيل هذه الجدلية وهي علاقة الدين والسياسة كما يتناولها غليون يحدد المؤلف ثلاثة مباحث تتمثل في جدل العلاقة بين الدين والسياسة، مأزق العلمانية والبديل الديموقراطي، الموقف من الحركة الإسلامية.يشير الكتاب فيما يتعلق بالمبحث الأول حول علاقة الدين بالسياسة أن غليون يؤكد في كتابه "نقد السياسة- الدولة والدين" أن محور اهتمامه بإشكالية العلاقة بين الديني والسياسي لا يتصل مباشرة "بنظرية الدين" ولكنه يدخل في دائرة البحث في السياسة ونقدها، وأن حديثه عن الدين يستمد مصداقيته وضرورته من الموقع المتميز للإسلام كعنصر أساسي في طبيعة وماهية السياسة في التجربة العربية الإسلامية قديما وحديثا.إن ما يعرضه غليون في الكتاب يهدف إلى تبيان العلاقة بين الإسلام كعقيدة توحيدية شاملة والمشاكل التي طرحها بناء الدولة والاجتماع العربي الإسلامي في محاولة منه للإجابة على سؤال: "ما هي الشروط التاريخية الاجتماعية المادية والمعنوية التي تفسر ظهور عقيدة من العقائد مهما كانت طبيعتها، بما فيها العقيدة المادية وما تأثير هذه العقيدة بعد نشوئها علي مسار التحول الاجتماعي العام؟". كما يشير هذا المبحث إلى أن إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي تمثل مدخلا أساسيا لفهم إشكالية أخري لا تقل أهمية عنها وهي إشكالية العلاقة بين الإسلام والعروبة. وتأكيدا للارتباط الوثيق بين الإشكاليتين يقول غليون "إن هذه العلاقة التي كانت تبدو طبيعية وحتمية بين الإسلام والعروبة في الماضي، وهذا الانسجام الكلي، لم يتبدل فقط عما كان عليه الحال في السابق، ولكن أكثر من ذلك، إن الأسباب التي تدعو إلي التطابق والتي كانت تخلق الانسجام هي نفسها التي تدفع اليوم إلي الفرقة وتخلق التوتر الفعلي بين العروبة والإسلام، إن العروبة لا تصبح معارضة للإسلام إلا لأنها تريد أن تتحول إلي مفهوم يجمع بين السياسة والدين، والإسلام لا يتناقض مع العروبة إلا لأنه يريد أن يجمع بين الدين والدنيا أيضا".أما المبحث الثاني فيتحدث عن مآزق العلمانية والبديل الديموقراطي ولا يكتفي غليون بالحديث عن العلمانية كنظرية أو كواقع تاريخي معاصر، ولكنه يعود إلي أصولها التاريخية البعيدة في بنية الفكر الديني المسيحي الذي قام علي "التمييز الصارم بين مملكتين مختلفتين ومتعارضتين تمام الاختلاف والتعارض، مملكة الله والروح، ومملكة الدنيا والجسد". أما المبحث الثالث فيتطرق إلي الموقف من الحركة الإسلامية مشيرا إلي أن المواقف تتعدد من الحركة الإسلامية بتعدد مواقع وزوايا النظر إليها، إذ يمكن أن نميز إجمالا بين ثلاثة مواقف كبري تستبطن بدورها مواقف فرعية متباينة كما يشير الكتاب، فإلي جانب رؤية الحركة الإسلامية لذاتها وهي رؤية من الداخل تتراوح بين نزعة احتفائية شبه مطلقة بالذات تؤمن بأن "المشروع السياسي الإسلامي" يمثل البديل التاريخي ومصدر الخلاص الوحيد للأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية والإسلامية، ونزعة نقدية رغم إيمانها بالبديل الإسلامي كبديل تاريخي، إلا أنها تقر بمحدوديته ونسبيته بل وتكشف عن العديد من مظاهر قصوره وتناقضاته وعدم انسجامه مع معيارية الخطاب القرآني نفسه. ويختتم هذا الفصل بتأكيد المؤلف أنه علي الرغم مما اتسمت به مقاربة غليون لإشكالية العلاقة بين الدين والسياسة من عمق وأصالة إلا أنها ظلت محكومة بنزعة استطرادية حرمته من ضبط مصطلحاته الإجرائية، فعلي سبيل المثال كما يقول المؤلف فإن مفهوم غليون للدين يتباين تباينا واضحا من كونه مصدرا إلهيا متعاليا إلي اعتباره معطي تاريخيا ثقافيا بالمعني الانثروبولوجي للثقافة، فهو تارة يعتبره "شرعا أو قانونا ثابتا عمل الفقهاء علي تطويره لقاء حصتهم من السلطة الاجتماعية وإطارا إيمانيا يعكس توجها روحيا وأخلاقيا أساسه "التضحية والتكافل والغيرية وإجهاد النفس والتسامح والتسامي عن الحاجات المادية والاهتمام بالحاجات الروحية"، ليغدو جوهر الدين هنا هو الارتفاع بالإنسان فوق المصلحة الذاتية وتكوين أفق مثالي له يقيه من السقوط في الأنانية والشر، وليس من الممكن من وجهة نظر التضحية والمثالية هذه إدارة شئون الدنيا والمصالح، وليس هذا منطقها، وإلا سوف يضطر إلى مجاراتها التحول إلي سياسة دنيوية، وهو قام على نقضها دفع الناس إلى تجاوزها كأفق وحيد لوجودهم وكينونتهم"، وبالمقابل يعود ليؤكد أن الدين يظل مهما بلغت أهمية الدولة المقر الحقيقي والأكبر للسياسة.[c1] اشكالية الدولة ومفهوم الديموقراطية[/c] يبدأ الفصل الثالث في الكتاب بمقدمة يتحدث فيها الكاتب عن انه رغم التراكم المهم الذي أنجزه الفكر السياسي العربي المعاصر حول إشكالية الدولة، إلا أنها قليلة الكتابات التي تناولت موضوع الدولة انطلاقا من رؤية منهجية موضوعية وأصيلة، ولاشك أن اجتهادات غليون وتحليلاته تقع في صدارة هذه المقاربات النظرية المتميزة، وللوصول إلي ذلك يقوم الكاتب بتحديد أربعة مباحث تتمثل في البناء المنهجي والنظري لإشكالية الدولة، الدولة العربية والمجتمع المدني، الدولة العربية الراهنة، أنماطها وعناصرها التكوينية، والدولة العربية الراهنة وأزمة المشروعية. في هذا الفصل يتناول عبدالسلام الطويل إشكالية الدولة عند غليون وهو الفصل الذي يستحق التوقف مليا، حيث انه يمثل النتيجة التي آل اليها مشروع الحداثة العربية شاخصة امام الابصار لدرجة تفقأ العين الكليلة، أفعل ذلك لقناعة خاصة بحاجتنا الماسة الى وضع أيدينا على مثل هذه الأوجاع مع التسليم باهمية المقدمات النظرية التي حملت مشاريع مهمة من نوعية مشروع غليون نفسه.ويتحدد مفهوم الديموقراطية لدى غليون كما يشير الكتاب في فصله الرابع الذي يحمل عنوان اشكالية الديموقراطية عند برهان غليون" في معنيين أساسيين المعني الأول هو نظام القيم الذي ارتبط بفكرة الحرية، وجعل منها القيمة المحورية بالنسبة للإنسان فردا وجماعة، أما المعني الثاني الذي يشير إليه مفهوم الديموقراطية عند غليون فيتمثل في النظام السياسي النابع من استلهام قيمة الحرية كمبدأ وقيمة اجتماعية عليا جديدة ينبغي أن تخضع لها ممارسة السلطة. في رأي غليون أن المحك الأساسي ومعيار تحقق المبدأ الديموقراطي يكمن في تمنع الشعب من أن يغدو مجرد أداة طيعة بيد السلطة بدل أن تكون السلطة هي التابعة له ، فما هو أساسي عند غليون هنا هو إحداث تغيير جذري في توزيع السلطة في المجتمع، وتغيير جذري في علاقة الدولة بالمجتمع، أي أن مسألة الديموقراطية هي مسألة تنظيم للمجتمع علي جميع المستويات وإعطائه هوية وثقة بنفسه وإرادة يستطيع أن يفرض نفسه بها علي الحاكمين. وفي هذا الإطار يتساءل غليون ما الذي يفسر عجز المجتمعات العربية علي تحويل أزمة النظم التسلطية الشمولية إلي عملية تفكيك لهذه النظم والانتقال نحو الديموقراطية كما هو الحال في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية والمعسكر الشرقي؟ وللإجابة علي هذا التساؤل يقترح الانطلاق من مجموعتين هما مجموعة العوامل الذاتية التي لعبت دور إعاقة حاسم ، ومجموعة العوامل الموضوعية وتتكون من البنيات التربوية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تكون النظام المجتمعي القائم وتحكم توزيع فرص والموارد والإمكانيات فيه.ويختتم الكتاب موضحا أن موضوع التحديث السياسي ينطلق ضمن إطار أكبر يتمثل في المشروع الحضاري النهضوي الشامل باعتباره مشروعا كليا ينطلق من الواقع العربي المأزوم في اتجاه تحقيق الأهداف الإستراتيجية العربية الكفيلة بوضع العرب علي سكة التاريخ الحديث، وجعلهم أمة تعيش علي إيقاع الحداثة وحركتها. كما يؤكد المؤلف في الختام أنه رغم نزوع غليون في الكثير من تحليلاته إلي التعميم وما قد ينتج عنه من تجاوز وإجحاف في بناء المواقف وإصدار الأحكام، ورغم نزعته التشاؤمية الواضحة في مقاربته للشأن السياسي العربي ، إلا أن مشروعه الفكري يقع ضمن في صدارة المشاريع الفكرية العربية المعاصرة المتصفة بقدر كبير من الأصالة والجدة والموضوعية. [c1]لحداثة العربية.. تراجع وانحسار[/c]يشير الباحث عبدالسلام الطويل الى ان الوطن العربي دخل مرحلة الحداثة الشروط التاريخية نفسها التي كانت عليها أوروبا، ويرى أن مصر ربما ـ كنموذج ـ كانت أفضل من أوروبا، وهو الأمر الذي جعل عددا من المؤرخين ـ حسب الطويل ـ يؤكدون أن الطبقة الوسطى العربية كانت بصدد انجاز مشروعها الخاص والمستقل للنهضة والتصنيع والتحديث.ويضيف الطويل ان اوروبا ـ على النقيض ـ حققت حداثتها بعد تعميم الصناعة ونشر التعليم وقيم العقلانية والتنوير ونظمت إرادات شعوبها ومصائرها ضمن كيانات قومية موحدة على أسس موضوعية، وأشاعت مبادئ العلاقات الديمقراطية بالمساواة أمام القانون وضمان حقوق المواطنة والحريات الشخصية والعامة، الى آخر ما يذكره الباحث في هذا السياق الذي يستفيض في شرح أسباب انجاز أوروبا لمشروعها الحداثي.ثم يعود الطويل ليشرح الظاهرة الاستعمارية التي أدخلت الاقطار العربية في سياق مختلف، فقدت فيه أدنى قدرة على تجديد مستقبلها، ويقول: أرغمت ـ يقصد تلك الدول المستعمرة بفتح الميم ـ على الدخول في سياق تاريخ محكوم بمجموعة من الثنائيات المفروضة من خارج سياق تطورها الذاتي:تاريخ التقليد في مواجهة التحديث، والتخلف في مواجهة الغرب والاستبداد في مواجهة الديمقراطية، لكن الطويل يعود فيقرر أن انتصار حركات التحرر الوطني بعد حقبة الاستعمار منحت الشعوب أملا في امتلاك المستقبل، ثم يعود ويقول ان شيئا من مشكلات الوطن العربي لم يحل رغم تغير الكثير من البنى في العالم العربي، ويرجع السبب في ذلك ـ حسبما يذكره الطويل ـ الى ان النهضة الصناعية في الغرب استطاعت ان تحمل معها نمطا جديدا من أنماط الانتاج وبالتالي أنماط التفكير والتنظيم الاجتماعيين، وهي حالة لم تكن تعرفها المجتمعات العربية لأنها نابعة من تاريخ مفارق لها.ويضيف الطويل: كما كان للمجتمعات العربية أنماط وبنى اجتماعية وتنظيمات ومنظومات من القيم وقواعد السلوك والتفكير مغايرة نابعة من تاريخها الخاص ومتميزة عما كانت تتمتع به أوروبا ايضا بحيث لم يكن من الممكن لهذه المجتمعات التي وجدت في موضع البلدان المغلوبة أن تنفي هويتها وثقافتها وشروط تشكلها التاريخي، وتأخذ بالتالي بالأنماط الجديدة بالسهولة، والمرونة المفترضة .[c1]الحداثة الغليونية[/c]في فصل بعنوان إشكالية الحداثة والموقف من التراث عند برهان غليون يشير الباحث الى ان غليون خطا خطوة بعيدة عن فكرة انتقاد التراث والتقليد والدين وغيرها من اسباب، واستخدم منهجه الشهير الاجتماعيات التاريخية.ويوضح الطويل آليات عمل هذا المنهج من خلال مرجعية يقول انها تعود الى اعتقاد غليون بأن التطور التاريخي العام للإنسانية يقتضي تحسين تصور منهجي يسمح برؤية التفاعل العميق في تاريخ التطور الخاص والعام في مختلف الجماعات والثقافات، والخروج من ضيق المجتمع الى رحابة التاريخ الاجتماعي الذي ينظر الى المجتمعات باعتبارها تجسيدات لنظم حضارية.ويوضح الطويل مستطردا أن غليون قدم ثلاثة مفاهيم إجرائية هي الحضارة والمدنية والثقافة. أما مفهوم الحضارة لدى غليون فيعني ـ حسب الطويل ـ المكتسب الانساني الشامل الذي يمكن تعميمه علي جميع الثقافات. بينما يعبر مفهوم المدنية عن هوية الجماعة الثقافية باعتباره مولدا لمجمل المباديء العقلية والمادية وشبكات التواصل التي تقوم عليها الجماعات وتتجدد ثم يتناول الباحث مفهوم الحداثة والتحديث عبر تعبير غليون الدولة التحديثية، وكذلك مفهوم النهضة أو التقدم، ثم التطور الذي يرهنه غليون ـ حسب الباحث ـ في الحرية باعتبارها معيارا للحكم على التطور التاريخي والتمييز بين الأنظمة الاجتماعية ويقول: ان ذلك يرتبط بمدى تحرير الطاقات والملكات والمواهب الاجتماعية الفردية التي يسمح بها نظام معين بالنظر الى نظام آخر ويستطرد الطويل قائلا: انه تبعا لذلك فان التطور التاريخي لا يصبح تقدما إلا بتحقيقه امكانية أكبر للتحرر.ثم يستعرض المؤلف موقف غليون من العصرية والمعاصرة ويلخصه في قول غليون: لقد أصبحت ثقافتنا عصرية، أي قلدت في فروعها ومنتجاتها الثقافة السائدة، لكنها وربما لهذا السبب بالذات لم تصبح معاصرة ، أما مفهوم غليون حول الرجعية والتقدمية لا سيما في الاشتقاقين اللذين تم صكهما حول الحداثة التقدمية التي وقف خلفها التيار الاشتراكي بكافة طوائفه والحداثة الرجعية التي وقف خلفها رجال البرجوازية الغربية.ويري غليون أن هذا التقسيم لا يحمل أي دلالة تاريخية موضوعية فعلية وانما ـ حسب الطويل ـ كان عامل تسريع لحركة الاندماج بالغرب والاقتداء به. وينقل الباحث عن غليون قوله باسم التقدمية وتحت مظهر العداء الشديد للرأسمالية، وبالتالي باسم الجماهير الشعبية، يمكن نقل الغرب كما هو دون خوف، أي اتباع سياسة تحديثية عمياء لا تتورع عن القيام بتصفية كلية للتراث الماضي . وعن التدمير العنيف للبنيات والهياكل والقيم المادية والروحية المحلية! وحول مفهوم التجديد يرى الباحث انه موضوع شديد الصلة لدى غليون بالتجديد الديني وهو ما يعني ـ حسب غليون ـ إعادة النظر في القواعد، والقيم والأفكار التي تقوم عليها السياسة في العالم العربي.ويرى الباحث عبدالسلام الطويل أن غليون في هذا المنحى اعتبر ان المدخل الاساسي لفهم السياسة، لا بما هي نظرية وانما بما هي ممارسة في الحياة الاجتماعية، هو مدخل الاسلام باعتباره أولا: عقيدة مؤثرة في سلوك الناس وباعتباره ثانيا: مؤسسة تاريخية تضبط وتنظم وتعيد انتاج جزء كبير من علاقات الأفراد والجماعات. ثم ينتقل الباحث للبحث تفصيليا في أهم محددات الحداثة عند برهان غليون ويتناول عبر ذلك مفهومه للعقل والأخلاق والثقافة والهوية، والعولمة والرأسمالية وفلسفة التغيير الاجتماعي، ثم يتناول إشكالية العلاقة بين الحداثة والتراث ونقد غليون لموقف الفكر العربي المعاصر من التراث، ثم في الفصل الثاني يتناول إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي عند غليون وكذلك مأزق العلمانية والبديل الديمقراطي، والموقف من الحركة الاسلامية.[c1] أزمة الدولة العربية بين الاستبداد والفساد[/c]ومنذ البداية يشير الباحث الى التأكيد الدائم من غليون على أن الاستبداد ظل ظاهرة ملازمة لطبيعة الدولة العربية، وينقل عنه قوله: تشكل ظواهر انعدام آليات التداول الطبيعي للسلطة، واحتكار مراكز القيادة من قبل نخب لا تتمتع في اغلب الأحيان، بالحد الأدنى من الاخلاق المدنية والكفاءة المهنية، وغياب الحريات العامة، وتفاقم الانتهاكات اليومية لحقوق الانسان، وفرض المراقبة السياسية والفكرية على الافراد وهيمنة السلطة الشخصية من النمط الأبوي، والخلط المتزايد والفادح بين الدولة والحزب الواحد والقبيلة أو الطائفة، وتعميم اجراءات العسف السياسي والقانوني، والتمييز المكشوف بين المواطنين، والقمع والعقاب الجماعيين. كل هذه الظواهر التي لا يمكن ان تخفي على عين أي مراقب، تشكل الحقيقة اليومية للسلطة في المجتمعات العربية، وتعكس القطيعة التي لا تكف عن التفاقم بين الدولة والمجتمع هكذا يعبر بوضوح برهان غليون.ويرى الباحث هنا تعقيبا على غليون أن دولة من هذا النوع عقيدتها الوحيدة هي الايمان بنفسها، وهو ـ في رأيه ـ ما يفسر شبه الاجماع من مختلف المدارس الفكرية على الطبيعة التسلطية والاستبدادية للدولة العربية، ويشير الباحث الى أن غليون لا يربط بين الاستبداد وبين الدولة المركزية أو غير المركزية، ولكن ذلك ينتج ـ بالأساس ـ من الرغبة في بناء نظام سياسي يمنع القوى الاجتماعية النازعة الى الاندماج في الدولة من ممارسة ضغطها وحريتها، وهو ما يعني تحولها الى دول ديكتاتورية تعسفية ـ حسب الطويل ـ تلغي التعدد والاختلاف ولا تؤمن به كما أنها لا تطبقه. ويشير الباحث الى الشقة الواسعة التي تفصل بين رؤى برهان غليون لبنية الدولة العربية ورؤى عدد من المفكرين مثل محمد جابر الانصاري وحسن حنفي، ومحمد عابد الجابري وهشام جعيط ومحمد أركون، وتلك الشقة قائمة على رفض غليون الربط بين واقع الدولة العربية وبين تراثها وبنيتها ومخيالها الاجتماعي وقاعها الجيوسياسي، وهو ما يطلق عليه الباحث خطأ منهجيا بنيويا لدى غليون يفترض دائما وجود علاقة تنافٍ وتنابذ وقطيعة بين البعد التاريخي الأنثروبولوجي للظواهر الاجتماعية والسياسية، ويحاول الباحث تقديم عدد من المقاربات بين هؤلاء المفكرين الذين ذكرهم وبين غليون، ثم يشير الى ان الرجل لم يعبأ كثيرا بالمناهج التي عول عليها وكذلك المناهج التي نبذها، واختار ان يذهب بعيدا في تناوله لأزمة الدولة الوطنية العربية حيث يرى ـ حسب الطويل ـ ان الدولة بدلا من أن تمثل المركز الرئيسي لانضاج القرارات وتجميعها واعادة نشرها وتوزيعها على مجموع القوى الاجتماعية الفاعلة، وبدل أن تقوم بدور العامل الرئيسي على تجاوز التناقضات الاجتماعية أيضا، تشكل بالعكس من ذلك من خلال قراراتها وسياساتها، طرفا في النزاع الاجتماعي أو انعكاسا مباشرا لطرف محلي أو أجنبي! ثم يرصد عبدالسلام الطويل على نحو تفصيلي أول عناصر ضعف الدولة العربية، ويرى أن المصدر الأول لهذا الضعف الاخلاقي والسياسي يرجع الى طبيعتها اللا وطنية ويتمثل ذلك ـ حسب قوله ـ في عجزها عن الاستجابة الفعالة للحاجات والمطالب الاجتماعية، وهذا الضعف هو الذي يفسر ميلها الشديد والمستمر، من منطلق التعويض وايجاد التوازن، الى تطوير القوة المسلحة العسكرية التي يتم توظيفها في اللعبة السياسية.وينتقل الباحث الى أزمة المشروعية في الدولة العربية، ويشير الى موقف برهان غليون من مفهوم المشروعية الذي يتناول عبره تلك الكيانات الهشة التي تسمي دولا، بينما وجودها يعاني من أزمة تحقق حادة، وهي دولة يراها تقوم على العصبيات ولا يمكنها أن تنتج أي تراكم معرفي يخلق منظومة من القيم والتقاليد.ويشير الباحث إلى أن غليون لا يحصر أزمة الدولة العربية في طبيعتها شبه المطلقة فحسب، بل في تمحور السلطة ـ حسب الطويل ـ في خدمة مصالح شديدة الخصوصية والضيق، الأمر الذي جعل من استبداد هذه السلطة استبدادا مضاعفا، كما يتطرق الباحث أيضا الى الطابع القطري للدولة العربية الذي جعل الافراد يتعاملون معها باعتبارها هيكلا إداريا وليس سياسيا. وفي النهاية يبقي أن نقول إن الإصلاح السياسي لا يمكن أن يكون سقفا لتمرير أهداف لا تنسجم مع الأداء الجمعي لأبناء الوطن الواحد، وإذا كانت الدول العربية تحتضن خليطا من السياسيين بين اليمين واليسار أو مواطنين يدينون بمعتقدات مختلفة أو مسلمين سنة وآخرين شيعة، فان تجارب عقود من السياسات العربية هنا وهناك كانت قائمة على أساس لون محدد أثبتت عجزها عن تحقيق التطور الوطني المطلوب في كل بلد عربي على حدة.