قصة قصيرة
نفدت قوى المطاردين له تماماً ..سكنت أصوات الرصاص، وهدير المحركات.. لم يكلف نفسه عناء السؤال عن ماهية، وهوية القوة التي كانت تزحف وراءه على قمم الجبال من ( القاعدة ) باتجاه ريمة في ذلك الليل الذي لبس عباءة الدم والظلمة .. لكنه كان يشعر أن مقادير الخالق عز وجل قد جمعت بالصدفة قوات من الأمن الحكومي، وعصابة اللصوص المنافسة له بزعامة قاطع الطريق المعروف بين عصابات اللصوص في المنطقة بـ ( حيدر). السيارة تشرب الآن الطريق بكأس المخافة .. وكان الليل الأعمى قد أفاق .. لكنها تزداد ضيقاً على أجنحة الليل التائه .. أطلق بصره نحو الأمام بعمق .. لم ير سوى بحر متلاطم من الظلمة ـ من ينقذني من هذا الليل ؟! أتمنى الآن أن أجلس على سلة من ( كدر الغرب ) والحلبة المحمضة بالحمر كتلك التي كانت تصنعها أمي في الأعياد .. أن أنظر في جمال هذه السيارة .. أن أتعرف على المبلغ الموجود في هذا الكيس الضخم .. هل هو بالريال اليمني، أم بالسعودي، أم بالدولار، أم باليورو .. أتمنى أن يلقي الزمان عباءة الظلمة، وتسفر الأرض عن ثغر صباح باسم .. أن أتحرر من صفة اللصوص .. أن أغدو شخصاً آخر .. غير ذلك المعدم الذي لا يعلم في الحقيقة حتى من هو أبوه .. أن أغدو غير ذلك اللص القاتل الذي تطارده السلطات .انعطف الآن .. ربما دون أن يدري نحو طريق الحديدة .. الطريق تمتد أمامه كثعبان شره لا نهاية له .. الجوع ينهش معدته الآن بعنف .. البرد يخترق دفاعات ملابسه الصوفية السميكة .. يصل إلى أعماق بدنه .ـ آه من قسوة البرد، والجوع !!.قال؛ وهو يتلوى على مقعد القيادة. ضغط أكثر على دواسة البنزين .. تمنى ضوءاً لمطعم ليلي على الطريق.. ضحك كمن يلطم على جراح متخثرة. قال في نفسه : ـ من أين با توجد المطاعم الليلية ؟ ومن سيأمن على نفسه في هذه الطرق ؟ لقد قتل أمثالي الحياة ، ومنعوا الرحمة .. الحقيقة أننا لا نستحق حتى مجرد الرحمة !.بدأت عيناه تذرفان الدمع .. انخرط في نشيج عميق .. كاد يدوخ من على مقود السيارة .. حاول الثبات .ـ لا أمل على هذه الطريق .. من ينقذك يا سعد ؟ من يرحمك يا سعد ؟ أنت لم ترحم أحداً .. أنت مجرم .. أنت لص قاتل .. لكن يا سعد متى كنت سعد ؟ متى عرفت طعم السعادة ؟ وبعدين ليش الغلط ؟ ليش ما أسأل من حولي : من اللي حولني إلى وحش ؟ من قتل روح الآدمية في قلبي ؟ تماسك على جانب المقود ، وعلى الكرسي .. توقفت السيارة .. أظلمت الدنيا في عينيه .ـ لا نجاة الآن !!قالها ، ثم ألقى بجسده على الكرسي المجاور .. ما عاد يعلم شيئاً .. ما عاد يحس شيئاً .. وعندما أفاق في نهار اليوم الثالث؛ كان ممدداً على سرير، وفراش وثير ، وبطانية غليظة ، وعليه آثار أجهزة ، وإسعافات وريدية ، وبجانبه رجل وقور يهنئه بالسلامة ، والعودة مجدداً إلى الحياة .تلفت يمنة ويسرة .. حدق في وجه الرجل .. لم يصدق أنه ما زال حياً .. وأن هذا الرجل هو حقاً آدمي كمثل غيره ممن قتلهم هو على مدى سنوات طويلة في جرائمه التي ما عاد يحصيها أبداً.. أبداً .